ألقى الرئيس بشار الأسد نهار الأربعاء الماضي خطابه الذي كان مرتقباً منذ فترة طويلة. ولم يكن هو الخطاب الذي كان العالم يتوقعه. إذ لم ينطوِ على أي قرارات جوهرية تتعلق بتطبيق إصلاحات جذرية ولا على محاولة لتهدئة المتظاهرين الذين حوّلوا عدداً من المدن السورية إلى ميادين قتال في الأيام الأخيرة. بل أتى الكشف الأبرز في الخطاب، بالنسبة إلى أيّ مراقب خارجي، في تسليطه الضوء على طباع الرئيس بشار. فمن الواضح أنّه رجل يكره الرضوخ للسيطرة أو الضغوط، أكانت داخلية أم خارجية. ولا شكّ في أنّه ورث هذا الجانب المتصلّب عن والده، الرئيس الراحل حافظ الأسد، الذي حكم سورية بقبضة من حديد على مدى ثلاثين عاماً. وتمحور الخطاب حول نقطتين برزتا في إلقاء أتى متردداً. النقطة الأولى هي أنّ سورية تواجه مؤامرة خطيرة تهدف إلى إثارة النعرات الطائفية، وتهدّد بالتالي وحدة الأمّة. وقارن هذه المؤامرة بتلك التي واجهتها سورية في عام 2005 وتمكّنت من إحباطها، في إشارة واضحة إلى محاولة بعض القوى الخارجية، ولا سيّما الولاياتالمتحدة وفرنسا، استغلال اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري من أجل إخراج القوات السورية من لبنان وحتى إسقاط النظام. أما النقطة الثانية التي استطرد فيها، فركزت على أنه كان يدرس إمكانية إدخال إصلاحات، منذ اللحظة التي ألقى فيها خطاب القسم في عام 2000. لكن الأحداث الخارجية التي كانت تهدد سورية أدّت إلى تحويل الانتباه عن عملية الإصلاح وتأخيرها. ومن بين هذه التهديدات، تحدث عن هجمات 11 أيلول (سبتمبر)، وعن غزو العراق واحتلاله، لما اعتبرت الإدارة الأميركية، على حد تعبيره، أن الدولة التالية التي ستسقط هي سورية. كما أشار إلى الأزمة اللبنانية في عام 2005، وهجوم إسرائيل على لبنان في 2006 وعلى غزة بين 2008 و2009، فضلاً عن سنوات الجفاف الأربع التي عانت منها سورية. وبدا كأنه يقول إنه لن يحصل أي تأجيل إضافي حالياً، إلا أن المحافظة على استقرار سورية هي في طليعة أولوياته، فيما تقوم الأولوية الثانية على معرفة حاجات المواطنين الاجتماعية والاقتصادية. وقال إن الإصلاحات ضرورية، وتم التخطيط لها منذ زمن، وستُطَبَّق قريباً، لكن لا يمكن إدخالها كنتيجة للأزمة. وفي سياق مناقشته للإصلاحات، لمّح باختصار إلى قانون يتيح تشكيل الأحزاب السياسية، وإلى قانون آخر لإنهاء حالة الطوارئ. وأضاف أن التخطيط بدأ لمجموعة من الاجراءات الاقتصادية، على أن يتم الإعلان عنها قريباً. وقال إن علينا أن نسرع لا أن نتسرع، في ما يشكّل، في الواقع، إعادة تشديد على مقاربته التدريجية. وأكد ان المؤامرة التي تواجهها سورية كبيرة لكنها لن تتردد في الدفاع عن مبادئها وقضيتها. وبالنظر إلى أن سورية تشكّل محوراً أساسياً لشبكة العلاقات المعقدة في الشرق الأوسط، لا يمكن الأزمة التي تختبرها البلاد إلا أن تترك وقعاً على تركيبة السلطة في المنطقة. فقد استُبعِدت مشاكل السياسة الخارجية فجأة، بعد أن شكّلت لوقت طويل مصدر قلق بالنسبة إلى القيادة السورية، وحلّت مكانها احتجاجات شعبية تسلّط الضوء على مسائل محلية طارئة ومهملة منذ زمن طويل. سيؤدي عجز النظام عن التخفيف من حدة الاضطرابات الداخلية إلى إضعاف محتّم لنفوذ سورية الخارجي، فتنعكس الأمور على أرجاء منطقة الشرق الأوسط. وفيما تتفاقم الأزمة، يرتعد حلفاء سورية خوفاً، فيما يبتهج أعداؤها. اكتسب الوضع بُعداً جديداً وأكثر خطورةً بسبب إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين الشبان. وأثار سقوط قتلى مدنيين بأيدي قوى الأمن حفيظة الرأي العام في أنحاء البلاد، فتأججت نيران الغضب المكبوتة حيال الحرمان من الحريات الأساسية وحيال الطبيعة الاحتكارية لحكم حزب البعث وحيال الأفعال التعسفية التي تُقدِم عليها النخبة المتميّزة. ويزيد من حجم هذه العلل ارتفاع مستويات البطالة في أوساط الشبان، ناهيك عن الخراب الذي خلّفه الجفاف في الأرياف منذ أربع سنوات، وعن المشقة التي لا تقتصر على معظم المواطنين الذين يشعرون بالمعاناة، إنما تشمل أيضاً الطبقة الوسطى التي باتت تعاني من الفقر بسبب تدني الأجور وارتفاع معدل التضخم. أطلق النظام سراح عدد من السجناء السياسيين وتعهد برفع حالة الطوارئ المفروضة منذ عام 1963. ولمّحت مستشارة الرئيس الاسد إلى أن الإصلاحات القادمة ستشمل حرية إعلامية أوسع نطاقاً والحق بتشكيل أحزاب سياسية. لكن الأسد لم يشر الى شيء من ذلك في خطابه. ويبقى أن نرى إن كانت الوعود وحدها كفيلة بوضع حد للاضطرابات. في غضون ذلك، زعزعت الاحتجاجات أسس الدولة الأمنية في سورية. وتشير كل التقارير إلى أن الأمر تسبب باندلاع مناقشات محتدمة داخل النظام ونتجت منه مواجهات متزايدة العنف بين الراغبين في الإصلاح والمتشددين. وتبقى نتائج هذه المشاحنات الداخلية غير مؤكدة. وينظر كل من إسرائيل وحليفتها الولاياتالمتحدة بعداء كبير إلى سورية، وكذلك إلى حليفتيها الأساسيتين، جمهورية إيران الإسلامية والمقاومة الشيعية اللبنانية المتمثلة ب «حزب الله». ولطالما شكّل محور طهران - دمشق - «حزب الله»، حيث تُعتبَر سورية حجر زاوية أساسياً، أهم عقبة في وجه الهيمنة الإسرائيلية والأميركية على دول المشرق. وفي حال تسببت المعارضة الداخلية بشلّ النظام السوري، ولو لمدة قصيرة، فمن المؤكد أنّ سطوة إيران على القضايا العربية ستتراجع، سواء في لبنان أو في الأراضي الفلسطينية، أو حتى في الخليج. وفي لبنان، قد يبدو أن «حزب الله» اصبح الآن في موقف دفاعي. ومع أنه لا يزال يشكل أكبر حركة فاعلة، يشعر خصومه المحليون بأن الأمور بدأت تنقلب لمصلحتهم. ولعل هذا ما يفسر الخطاب العنيف الذي ألقاه زعيم تيار «المستقبل» سعد الحريري مؤخراً، حيث ضرب بصورة واضحة على الوتر الطائفي الحساس. واتهم سلاح «حزب الله» بأنه لا يشكل تهديداً لإسرائيل بقدر ما يشكل تهديداً لحرية لبنان واستقلاله وسيادته، لمصلحة قوة أجنبية، هي إيران! ولا يقتصر التوتر بين السنّة والشيعة على لبنان، بل تفشّى في المنطقة، ولا سيّما في البحرين. وأفسحت الاطاحة بنفوذ السنّة في العراق المجال أمام زيادة نفوذ الشيعة. وبهذا، تخدم الرياح الطائفية التي تعصف في المنطقة إيران والعراق في تقاربهما أكثر من أي وقت مضى. وتشعر تركيا بقلقٍ كبير حيال ما يحصل في سورية من اضطرابات، بالنظر إلى أن دمشق تُعتبَر حجر الزاوية بالنسبة إلى السياسة التركية الطموحة في العالم العربي. فقد شهدت العلاقات التركية - السورية ازدهاراً في السنوات الأخيرة، فيما فترت العلاقات التركية - الإسرائيلية. وسعى رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان ووزير الخارجية النشيط أحمد داود أوغلو إلى التوسط في النزاعات المحلية وتحقيق الاستقرار الذي تحتاج إليه المنطقة، وذلك من خلال إنشاء روابط إقتصادية وثيقة. إلاّ أن خسارة سورية قد تتحول إلى مكسب لمصر. فبعد أن تحررت القاهرة من حكم حسني مبارك الراكد، من المتوقع أن تلعب مصر دوراً أكثر نشاطاً في القضايا العربية. وبدلاً من أن تستمر في سياسة مبارك المتقاربة مع إسرائيل، والقائمة على معاقبة غزة وعزل حكومة «حماس»، تذكر التقارير أن مصر تمارس الضغوط لتحقيق المصالحة بين حركتي «حماس» و «فتح» المتنافستين. وإن نجحت في ذلك، فقد تساعد على نزع فتيل التصعيد الخطير وأعمال العنف بين إسرائيل و «حماس»، فضلاً عن مجموعات فلسطينية أكثر تطرفاً منها، تتخذ غزة مقراً لها. وممّا لا شك فيه أن فشل عملية السلام ولّد إحباطاً شديداً لدى الفصائل الفلسطينية المتحاربة، وقد يرى بعضها حاجة ملحّة إلى إثارة صدمة كبيرة بهدف تحويل اهتمام الرأي العام العالمي عن الموجة الديموقراطية العربية والعودة إلى الاهتمام بالقضية الفلسطينية. وقد يحسب الإسرائيليون المتشددون بدورهم أن حرباً قصيرة قد تلبي أهدافهم. وقد يحلم مؤيدون كثر لحكومة بنيامين نتانياهو اليمينية المتطرفة بالقضاء على «حماس» مرّة واحدة وإلى الأبد. إلا أن أخطر تهديد تواجهه المنطقة، من بين التهديدات القائمة يكمن في الطائفية المتفشية وفي العلاقات السيئة بين دول المنطقة وداخل كل دولة، وفي انتشار الكراهية والتعصّب وعدم الثقة. لقد قام عدد كبير من الدول الشرق أوسطية الحديثة – وسورية ليست استثناءً - على فسيفساء من الأديان والطوائف والجماعات العرقية القديمة، التي جمعتها حكومة مركزية بطريقة مضطربة وغير مثيرة للارتياح أحياناً. لكن الحكومات بقيت أبعد ما يكون عن الحياد، مفضلة طائفة على أخرى. وفيما تواجه سلطة الدولة التحديات، قد تخرج الشياطين الطائفية المتعطشة للدماء من مخابئها إلى العلن. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الاوسط