«العلم في الصغر كالنقش في الحجر»، قال العلم ولم يقل الجهل، دلالة المقولة تنساب للفضيلة رسوخاً وتأدباً، نحن العرب حالنا كحال أمة الجهل على الأرض، قلبنا معادلة المقولة وجعلناها مضيعةً للوقت وإجراءً روتينياً، نقتنع به أطفالاً، ونحطمه شباباً، ونتمرد عليه رجالاً، ونخجل وربما نعجز عن القيام به كهولاً. طابور الصباح المدرسي فُرض علينا طلاباً في المدارس لنبدأ أولى خطوات احترام النظام، وكان الشارع بانتظارنا يعج بأنواع مبيدات حرق الفضائل، ينبذ النظام ويلخبط أوراق المعرفة. الياباني تعلم النظام في بطن أمه تتطور جيناته وتتشكل قواه الحسية والعقلية والجسمانية (بقدرة الله) في هدوء وسكينة، الأم اليابانية خطواتها محسوبة، وطاقتها موزعة (بطريقة علمية مدروسة!)، يتغذى مولودها في بطنها على المعارف وحسن الأداء والتزام النظام، أما الغذاء فمحسوب بالقطارة لا ينقص فيخل بالنمو، ولا يزيد فيغرق الطفل ويصاب بالتخمة، لذلك اليابانيون ليسوا مبذرين كإخوان الشياطين. الشعب الياباني وضع للطابور رؤية، أوصلته إلى إلغاء الوعظ الحكومي، وتجميد وصاية وعاظ الأمن والثقافة والسلوك، كما نجح في ترسيخ رسالة الطابور التي عَبّرت عن قدرة وثقافة الشعب الياباني على إدارة ومراقبة الذات من دون وصاية أو حملات الأوامر التوعوية، وحققت الهدف الذي يسعى إليه الفرد والجماعة والدولة في رسم صورة ذهنية حضارية أوقفت الجميع احتراماً وتقديراً للأمة اليابانية. كم تحسرت على الفارق الكبير بيننا كمسلمين، وبين الشعب الياباني عندما رأيت اصطفاف سكان «فوكوشيما» وبقية مدن الشمال الشرقي أمام وسائل النقل البرية والبحرية والجوية منتظمين في الحركة والسلوك في خطة إجلاء السكان عن المدينة، انتظروا في طوابير مستقيمة لأدوارهم ليستقلوا الناقلات، لم تكن هناك حافلات خاصة، ولا أفراداً على رؤوسهم ريش، الجميع سواسية، وبحسب الخطة تم إجلاء الآلاف في الزمن المحدد، تذكرت في لحظة المشهد الكارثي الذي حل باليابان قصتنا مع إبليس، أكثر من ثلاثة عقود وهو يرى شهداء واجب الرمي يتساقطون الواحد تلو الآخر لأداء منسك رمي الجمرات في الحج، نعاكس الاتجاهات، ونتدافع بالأيدي، والأجساد تدوسها الأقدام، شعارنا، نفسي نفسي حتى لو هلك الآخرون، ما اضطر حكومة المملكة إلى إنفاق البلايين لوضع حلول تستطيع أن تُغطي وتستوعب مخالفات الطوابير مهما بلغ حجمها وعددها وعدتها، حلولنا منسجمة مع ثقافتنا وسلوكنا؛ الشيء المؤكد لو كنا منتظمين وتأدبنا بآداب الإسلام واحترمنا الطابور، لرمينا الجمرات في الوقت المحدد من دون حاجة لأنفاق وجسور معلقة، ولسقينا إبليس (لعنه الله) كأساً علقماً يُغيظه من حسن آدابنا الجمة وسلوكنا الحضاري. حلت الكارثة الزلزالية، والموجة المدية الضخمة بشمال شرق اليابان، تهاوت المباني وتلخبطت خريطة فوكوشيما، ساد الظلام وتصاعد الدخان المرعب من محطات الوقود النووية، اختفت معالم الطرق وعلامات الحركة وظل الطابور الياباني صامداً، وصلت الفيضانات «التسونامية» إلى ذروتها، ولم يتبلل الطابور الياباني بالمياه، لأن العقل هو المُدَبّر والمُسيّر وليست الخطوط الحمر والممرات المكبلة بالقضبان، على رغم فداحة الكارثة وقسوتها لم نسمع نواحاً ولا صراخاً وعويلاً، لم يصدر في اليابان أمر ولا توجيه ولم تنحرف بوصلة المسؤوليات. مخلفات الزلزال والعاصفة المائية، كشفت عن خسائر مجتمع إقتصاد المعرفة من خلال مشاهد لحطام طائرات صغيرة وأجهزة كومبيوتر وأدوات معامل البحث والتطوير، لم نشاهد أوراق أكياس الأسمنت والبلاستيك، وكراعين الحاشي، وفضلات الأطعمة والأشربة، وهذا يُحَدثك عن الفارق والبون الشاسع بين مخلفات مجتمع إقتصاد المعرفة، ومجتمع إقتصاد مزايين الإبل ومحاسن الطيور والتيوس! جهود الإغاثة أظهرت براعة وكفاءة الكوادر البشرية وأنظمة الإعداد والتدريب، انضباط في الحركة والتصرف تؤكد على مستوى التطور الذي وصلت إليه خطط مواجهة الكوارث، مركبات الدفاع المدني لإطفاء الحرائق تحركت إلى مواقع المحطات النووية المشتعلة، وأديرت عن بعد من دون قيادة بشرية للمركبات حفاظاً على سلامة الأرواح. الكارثة اليابانية حدثت بعد أشهر قليلة من اليوم المطري على محافظة جدة، هذا المطر المعتاد على مستوى الخريطة الدولية، الكارثي على المستوى المحلي لإصابة البُنى التحتية - في معظم مدننا وليس في جدة فحسب - بمرض هشاشة التنفيذ، وعلى رغم فارق حجم الكارثة بين ما حدث في جدة المُعرّف في القاموس الياباني (باللسعة)، وما حدث في فوكوشيما، المسماة على المستوى العالمي (بالكارثة الفادحة). وعلى رغم أن المشكلة في جدة مسلسل مكسيكي مُملُ الأحداث وكَذِب التفاعل بين أحداث المشاهد وأصوات الترجمة للعربية، مكرر الصراع على عشق حسناء تعرف من الفاسد والأكثر فساداً، والخائن والأكثر خيانة؟! أقول وأتمنى من الأعماق، ألا أصل إلى حد الجزم، أنه على رغم هذا الفارق الكبير في حجم الخسائر قد تعود فوكوشيما إلى سابق عهدها بل أفضل مما كانت عليه، وحسناء البحر الأحمر لا يزال سكانها يعيشون مآسي الصراع الطويل والقاسي مع أنابيب تصريف مياه الأمطار والصرف الصحي (المقصود هنا المدة الزمنية ومستوى كفاءة التنفيذ). بعد أن فرغت من كتابة المقال، وأعدت قراءته وجه القلب للعقل سؤالاً، ما الذي حشرك وأشقاك في هذا الموضوع؟ فكان جواب الفيلسوف الفرنسي حاضراً «أكثر الضمائر سمواً هي أكثرها شقاءً». * كاتب سعودي. [email protected]