مما ينسب إلى الأديب اللغوي أبي هلال العسكري قوله: ولو أني جعلت أمير جيش / لما قاتلت إلا بالسؤال فإن الناس ينهزمون منه / وقد ثبتوا لأطراف العوالي ذلك أن الأمر لا يقف عند حدود السؤال، بل يمس بعض المسائل الجوهرية المهمة، ومن ذلك علاقتنا بالمعرفة من حيث أساسها ومصدرها، ويكشف في الوقت ذاته درجات التفكير ودركاته. وإذ كان السؤال يثير كمائن النفس لدى المتلقي، كما هي لدى مبدع النص، فإن عنترة أثار الفضول لدينا من خلال مطلعه الاستفهامي «هل»، وذلك في قوله: هل غادر الشعراء من متردم / أم هل عرفت الدار بعد توهم فلماذا بدأ الاستفهام ب«هل»؟ ولماذا كررها؟ وما هي دلالات هذا التكرار وغاياته؟ وهل يمكن أن نعد الاستفهام نواة تُبنى عليه القصيدة برمتها؟ لقد بدأ الشاعر قصيدته مستفهماً ب«هل»؛ ليكشف عن حجم الحيرة والقلق اللذين يساورانه، إن القلق الذي يعيشه الشاعر ما هو إلا انعكاس لعقد داخلية تتمثل بضياع الهوية وسلب الحرية، ولو تأملنا في القصيدة عموماً وجدناها تؤول إلى هذا المعنى، ولكن على سبيل التخلص منه، وسأقف عند مكون واحد من أهم مكونات القصيدة، محاولاً الكشف عن تجليات هذا المعنى - إثبات الذات - من خلاله، ألا وهو «المرأة». عندما أمعن النظر متأملاً في غرض الغزل لدى عنترة، يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: هل عاش عنترة قصة حب حقيقية، أم أن الخيال كان الباعث الأساس لهذه القصة؟ في الحقيقة ليس هناك سوى الموروث التاريخي يمكن إقامته دليلاً على صحة هذه القصة، والتاريخ بطبيعة الحال لا يمكن الجزم بصحته، وخصوصاً ما يتعلق بقصص عنترة وأشعاره، التي تلاعبت بها أيدي الرواة كثيراً، فثمة فرقٌ واضح بين أن نرى النص من خلال النص نفسه، وبين أن نراه من خلال نافذة التاريخ. فمن خلال التاريخ نجد محبته لابنة عمه عبلة ثابتة، ونعثر على كثير من القصص المنسوجة في ذلك. وبالرجوع إلى شعره نجد صورة مغايرة تماماً للصورة التاريخية، لتجعل الشك يساورنا تجاه حقيقة حبِّه لعبلة، فتارة ينسب محبوبته إلى أب يُدعى (مالك) وتارة إلى (مخرم)، فهل عبلة هذه أكثر من محبوبة، أم لها أكثر من أب؟ نجد ذلك في قوله: هلَّا سألت الخيل يا بنت مالك / إن كنت جاهلةً بما لم تعلمِ [1] وفي موضع آخر من المعلقة يقول: حلَّت بأرض الزائرين فأصبحت / عسراً عليَّ طلابك ابنة مخرم فكيف تكون عبلة حلَّت بأرض الزائرين (الأعداء) وهي ابنة عمِّه، ألا يمكن أن تكون حريته هي التي حلَّت بأرض الأعداء، فلم يحسنوا التعامل معها. إن المرأة لا يمكن أن تكون إلا هوية الشاعر، وحريته الموؤودة، لذلك نجده يقول: إذ تستبيك بذي غروبٍ واضحٍ / عذبٍ مقبله لذيذ المبسم إن كنت أزمعت الفراق فإنما / زمت ركابكم بليلٍ مظلم إن عنترة متلهف إلى وصال هذه الحرية، فما أمسى إلا وهو موصول بفراقها. إن تشابه عاطفة الحب الوجداني بنزعة حب الحرية تجعل من العسير على القارئ أن يدرك المواقف التي لعبت بها إحدى القوتين، فكل من حب الحرية وحب المرأة شعور مرتبطٌ بذات الشاعر ووجوده، فإن كانت الحرية تحمل دلالات الوجود فإن المرأة هي البرهان العملي على هذا الوجود، فعنترة لا يريد أن يقف عند دلالة الوجود بقدر ما يريد الوصول إلى كماله من خلال المرأة، فالمرأة الجميلة لا تكون إلا من نصيب الفارس الذي اكتملت حريته، فلا يمتنع عليه ما يمتنع على غيره من النساء والأموال. لذلك نستطيع أن نقول إننا نجد عنترة في هذا الغزل أكثر مما نجد المرأة المعشوقة، كما في قوله: إن تغدفي دوني القناع فإنني / طبٌ بأخذ الفارس المستلئم إننا لا نجد في هذا الغزل انكسار العشاق، بل نجده مفعماً بمعاني القوة، ونشتم رائحة الدم منه أكثر من رائحة الحب. * كاتب سعودي.