كان مشهد خلع رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية سعد الحريري سترته وربطة عنقه الحدث اللبناني الأبرز في تظاهرة 13 آذار (مارس). الخصوم والموالون على حد سواء هرعوا للتعليق على ما اعتبر تصرفاً لا يشبه السياسيين، فطغى الحادث على سائر الهموم السياسية والشعارات والنكات. وتراوحت التعليقات على موقع «فايسبوك» من «شو هاللوك يا شيخ سعد»، إلى «الشعب يريد إسقاط البنطلون». أما الرسائل النصية القصيرة، فلم تسترح من نقل الحدث بتهكم، ومنح القضية بعداً سياسياً، خصوصاً بين الخصوم الذين تبادلوا الشعار الساخر «لن نترك السلاح... وشو ما بدك شلاح»! ومما لا شك فيه أن ظاهرة النكات السياسية والانتقادات التي تندرج تحت إطار «الكوميديا السوداء»، هي تقليد لبناني قديم للتحايل على الأزمات السياسية والاجتماعية. وتتخذ الانتقادات أشكالاً متعددة، منها الشعارات اللفظية والمكتوبة ووسائل تعبيرية أخرى كالرسومات وحتى «أدوات المطبخ». ولا ينسى اللبنانيون تظاهرة الطناجر والملاعق التي رفعت بوجه رئيس الجمهورية السابق اميل لحود، تطالبه بالرحيل. فقد كانت تلك الوسيلة التعبيرية أكثر الأشكال ألماً، لأنها تتضمن نقداً مباشراً بمعاني الذمّ. ويعد لبنان من أكثر البلدان العربية «تطوراً» على هذا الصعيد، بدليل البرامج الساخرة التي تجتاح الشاشات بشكل شبه يومي ولا تقف عند حدود أدب أو لياقة. ويضحك اللبنانيون بمعدل 6 ساعات أسبوعياً على نكات تتناول الطبقة السياسية، فيما لا يفوت السياسيون فرصة بدورهم «لتلطيف الجو» عبر بثهم نكات تنتقدهم مباشرة، أو تطاول زملاءهم في المجلس النيابي. وقد لا تكون تلك سمة لبنانية خالصة كما يحلو للبعض الاعتقاد فعلى ما يبدو تعدّ «روح النكتة ميزة لشعوب حوض المتوسط الذي تؤثر جغرافيته السياسية على شخصية قاطنيه»، كما يؤكد الاختصاصي بعلم الاجتماع السياسي د. حنّا الحاج، مرجعاً ظاهرة النكات السياسية إلى «التنفيس عن حالة كبت ناتجة من التربية السياسية وثقافة المواطنية للتعبير عن مكنونات الإنسان»، موضحاً أن الطرافة «فُطرت عليها الشعوب لانتقاد السياسة، وهي الوسيلة المتاحة لها بوجه الحزم الأمني». وتتوسع ظاهرة الطرافة لتطاول رجال الدين اللبنانيين الذين يطلقون النكات السياسية في مجالسهم، لتصل إلى حدود تكليف المغنية الحسناء هيفاء وهبي بأسر جنديين إسرائيليين عوضاً عن حرب شبيهة بحرب تموز 2006! غير أن التهكم يصل أحياناً حد الانتقادات اللاذعة فيتخذ شكل القدح والذم أحياناً، خصوصاً حين يحاول سياسي تحقير خصمه فيخرج عن مفهوم خفة الظل، ليصل إلى الشتيمة. وعلى وقع سؤال «ما المشترك بين مخاطبة الحريري صبايا لبنان وخلع القميص؟» اشتعلت المواقع الإلكترونية والمدونات بإجابات وردود تتراوح بين وصف الحريري ب «شيخ الشباب»، و»المطالبة بإسقاط البنطلون بعدما نجحنا بإسقاط الجاكيت»، وما بينهما من مفردات تخدش الحياء. للعلمانيين حصتهم وإذا كانت تظاهرة 13 آذار أخذت الحيز الكبير من تعليقات المدونين، فإن الشعارات التي رفعت في تظاهرة العلمانيين، كانت أقرب إلى الانتقاد اللاذع منها إلى الكوميديا السوداء. استخدمت فيها «مبيدات الحشرات»، و»المكانس» و»التيار الكهربائي» شعارات لطرد النظام الطائفي. فشعار «العلمانية مبيد فعال للحشرات الطائفية»، لم تتوقف سخريته عند التنفيس عن الألم بالضحك، ولا شعار «كهربتونا»، إذ تماهى المتظاهرون بنجومية ممثل تركي لتوصيف حالة مواطن يعيش في الظل، بدليل إحدى اللافتات التي كتب عليها «حلمي صير مهنّد ببلدي». وتخطت تلك الشعارات اللاذعة الإيقاع المطلبي لتصل إلى استخدام مصطلحات رائجة على غرار «كش ملوك الطوائف» المقتبسة من لعبة الشطرنج. وتشهد كل التظاهرات في لبنان، سواء كانت مطلبية أم سياسية، تعليقات وشعارات خفيفة الظل. منها ما يندثر بعد انقضاء التظاهرة، ومنها ما يبقى في ذهن اللبنانيين، مثل الحمار الذي وضع عليه أحد سائقي سيارات الأجرة إشارات ضوئية ومصابيح، إيحاء بأنه سيكون البديل عن السيارات في ظل ارتفاع سعر المحروقات. أما الشعارات التي رفعها المطالبون بمنح المرأة حقوقها خلال مسيرة يوم المرأة العالمي في 8 آذار الماضي، فقاربت التهديد للرجال وأكثر ما علق منها في الأذهان شعار «بدك تشوف... أنا بفرجيك»، كذلك «السي سويت (متجر لبيع الحلويات) مسكّر... كل البقلاوة الباقية على الطريق». وتحول هذا الشعار إلى وسيلة فاعلة لمعاكسة الفتيات في الشارع، وتناقلته المدونات الإلكترونية. ويعتبر الحاج إن النكتة تنتشر في أوساط الفقراء أكثر من سواهم «كونها أكثر وسائل الترفيه والتنفيس التي في متناولهم»، علماً أن النكتة اللبنانية تندرج عموماً ضمن إطار الكوميديا السوداء «بسبب الظروف الاجتماعية والسياسية القاسية التي يعيشها اللبنانيون» بحسب الحاج. وحين تطاول الخصوم السياسيين، فإنها قد «تُترجمُ أحقاداً بالنكتة اللاذعة». ويرى الحاج أنها حالة سلوكية «وشكل من أشكال الكاريكاتور السياسي الرائج شعبياً». وحين يتجاوز حدوده الطبيعية، فإنه يصبح «شكلاً للكاريكاتور العنفي الذي يحدد الخصوم هدفاً له»، متوقعاً أن تشغل ظاهرة النكات على سترة الرئيس الحريري الرأي العام اللبناني مدة طويلة.