تشير الإحصاءات السكانية في الجزائر إلى اكتفاء الأسر بإنجاب طفلين أو ثلاثة، على الأكثر خلال السنوات الأخيرة، في وقت ترتفع معدلات العنوسة والعزوبية. لكن الدوائر الرسمية في البلاد ألقت «قنبلة جدلية» تثير حساسية الرأي العام، طارحة أمر العودة إلى سياسة تنظيم النسل تفادياً لانفجار سكاني. ومن باب تفادي أسوأ سيناريوات نفاد مداخيل البلاد من المحروقات، على المدى المتوسط، تبرر السلطات الجزائرية إعادة بعث سياسة تنظيم النسل التي جاءت على لسان رئيس الحكومة أحمد أويحيى، في صورة «التخويف» مع حصول مليون ولادة سنوياً وما سينجم عنه من ضرورات تشييد آلاف المرافق الصحية والمساكن وتوفير فرص العمل. تحقيق التوازن لهذا الغرض، بدأت وزارة السكان وإصلاح المستشفيات تجنيد الوسائل الناجعة لدفع الأفراد إلى اتباع سياسة تحديد النسل لتحقيق التوازن ما بين زيادة عدد السكان والتنمية الاقتصادية والاجتماعية لفائدة الأجيال المقبلة. في كانون الثاني (يناير) الماضي، بلغ عدد سكان الجزائر 41.3 مليون نسمة. ووفق إحصاء رسمي، سيصل في غضون نهاية السنة المقبلة إلى حوالى 42.2 مليون نسمة. وفي حال استمرار وتيرة الإنجاب على حالها، سيفوق ال51 مليوناً في مطلع 2030. ويشكك مختصّون اجتماعيون في الإحصاءات التي، وإن كشفت ارتفاع معدّل الزيجات وتزايداً في المواليد ما يشكل احتمال مواجهة الجزائر أزمة ديموغرافية جديدة على غرار ما شهدته في ثمانينات القرن ال20، فإن دراسات أخرى تلحظ أن نسبة العنوسة والعزوبية في الجزائر في استمرار مقلق، بسبب مشكلات اجتماعية – اقتصادية، وقد تكون لها عواقب أخلاقية وخيمة تهدد الاستقرار بأكمله. لذا، فإن إنجاز دراسات جدية تجمع الأطراف كلها بات أمراً ضرورياً لرفع اللبس الذي يشوب هذا الملف تحديداً، خصوصاً أن 62 في المئة من الأسر الجزائرية تستخدم إحدى وسائل تنظيم النسل، وبالتالي لا يتجاوز معدل الأطفال في الأسرة الواحدة الثلاثة أطفال. ويفرّق أطباء نفسيون بين الأسرة القديمة والحديثة، فما كان شائعاً قبل ثلاثة عقود أن العائلات تثبت وجودها في القرية أو القبيلة أو الحي من طريق كثرة الأولاد والتنافس في ذلك مع بقية الأسر، بل إن من سماتها التعاون والتلاحم والاعتماد على الأولاد في كسب الرزق، في حين كان ينظر إلى الأسر الصغيرة بشيء من الانتقاص. في المقابل، يهيّمن التخطيط على الأسر الحديثة واكتفاؤها بإنجاب طفل أو طفلين فقط بسبب مشكلات السكن إلى الجانب المادي ومتطلّبات المعيشة المرهقة. حساسية الرأي العام ويتساءل الرأي العام كيف يمكن تجسيد سياسة تحدّ من النسل مع تحسّن متوسط الأعمار في الجزائر بتأكيد ديوان الإحصاء الرسمي أن الجزائريين أطول المعمّرين في أفريقيا والوطن العربي، إذ تطوّر معدّل أعمارهم من 47 سنة عند الاستقلال عام 1962 إلى 78 سنة في العام الماضي أي المعدّل ذاته في البلدان المتقدمة، نظراً إلى إفادة غالبيتهم من خدمات الضمان الاجتماعي والاستشفاء المجاني واللقاحات ضد الأمراض المختلفة. وعلى العكس، تتعالى أصوات دعاة الرفع من نسب الولادات سنوياً لتشكل معيار قوة للاقتصاد الذي يتعرض لهزات عنيفة، لا سيما أن الجزائريين لا يقيمون إلا في 12 في المئة من مساحة بلدهم. لذا، يشجع المحامي والقانوني نور الدين طيري على الزواج والإنجاب، ويشدد في تصريح إلى «الحياة» على تقوية الاقتصاد، ف «النمو يحتاج إلى عدد معتبر من السكان». ويعتقد الناشط في مجال حقوق الإنسان ياسين أعمران أن الجزائريين دُفعوا إلى تحديد النسل بطريقة غير مباشرة من خلال سياسة «التفقير»، فضلاً عن سنّ قوانين مخالفة للشرع على غرار شروط الارتباط بزوجة ثانية. ويفسّر أعمران ل «الحياة» إثارة الحكومة موضوعَ تحديد النسل بإخفاقها في إيجاد اقتصاد بديل للمحروقات، موضحاً أن هذا النوع من الاقتصاد الذي يعتمد على مردودية الأفراد، يشكل الثقل الديموغرافي فيه عاملاً مهماً. لكن بقاء الدولة رهينة الاقتصاد الريعي الذي يعود على إعادة توزيع المداخيل من خلال سياسات اجتماعية مهترئة، يجعل النمو السكاني يمثل بلا شك عبئاً على الحكومة. استشارة قبل الخطوة يتوجّب قبل الخوض في المسألة استشارة رجال الدين، وفق المحامي فاروق قسنطيني، إذ على الحكومة مراجعة هؤلاء في الطريقة التي يجب اتباعها في التحكم بالإنجاب بناء على تعاليم الدين الإسلامي الذي يُعد دين الدولة. ويعترف في الوقت عينه بأن قرار تحديد النسل عادي جداً واتخذ لمواجهة التحديات الاجتماعية المقبلة، بيدَ أنه لن يطبّق طالما يواجه باعتراضات. ويقر نسيم بوعافية إمام مسجد عقبة بن نافع في محافظة ميلة، بتحريم الدين الإسلامي تحديد النسل، لأنه يتنافى مع الغرض الذي جاء به الزواج، وهو التناسل وإنجاب الأولاد. ويضيف: «في حال أرادت الحكومة تنظيم النسل من خلال تباعد فترات الإنجاب بين كل طفل وآخر، فهو أمر جائز من أجل تحسين الظروف المعيشية تبعاً للسياسات المعتمدة». وفيما تتأهب السلطات لتزخيم الحملات الإعلامية الهادفة إلى تسليط الضوء على فوائد تنظيم الأسرة وتحديد النسل، تنشط جمعيات على غرار الجمعية الجزائرية للتنظيم العائلي في إطلاق برامج توعية على مدار السنة.