تسود في اللحظة العربيّة الراهنة رغبة قوية في عدم تصديق ما يجرى، من انتفاضات وثورات وانهيارات لبنى سلطويّة عربية مديدة، ينجم عنها أرق فكريّ مزمن وثقيل الوطأة، يدلّ على قدر استفحال نظريّة المؤامرة، والتصاقها وتجذّرها في طريقة تفكيرنا ومحاكمتنا للأمور. والراهن أن الشّك ما زال يتربّص بقدراتنا الإدراكيّة، وكان قد وجد طريقه تاريخيّاً إلى كثير من الأجيال العربيّة الشّابة التي تلقّت تربية سياسية مخصيّة وموجّهة، فيما لم يتح لها أن تشهد وتتعرف لا على تاريخ تشكّل كياناتها السياسية، ولا على تطور حركة مجتمعاتها. فلا يكاد يخلو نقاش اليوم من تلميحات أو اتهامات إنشائيّة بوجود مخطّط غربي ما، تسير الأحداث الراهنة وفقه، بخاصة بعد أن شبّه الإعلام ما يحدث على الأرض من ثورات وانتفاضات بآلية الدومينو، رغبة منه في تسطيح الأمور واختصارها إلى مصطلحات وتعابير استهلاكيّة. فهذا يقول بوجود أصابع إيرانيّة، وآخر يقول بوجود أيدٍ أميركيّة وإسرائيلية. وهو ما أخذت السلطات تروّج له. فالعقيد القذافي تحدث عن هذيانه بتورط القاعدة في الثورة ضده. وأشار رئيس اليمن إلى وجود «غرفة عمليات» في البيت الأبيض الأميركي. كما كشفت وثائق جهاز أمن الدولة التي نجت من الحرق في مصر بعد الثورة، عن اتهام نظام مبارك الأمني للتظاهرات الحاصلة وقته بأن «الولاياتالمتحدة اضطلعت بالاشتراك مع دول الاتحاد الأوروبي بمشاركة النظام الصهيوني في وضع مخطط يستهدف اختراق المنطقة العربية والإسلامية». وذلك في إطار حملة تشويه مضادة للثورة لم يمهل الزمن نظام مبارك للقيام بها. غير أن ما يدعو للسخرية من هذه العقليّة، وأسلوب التفكير والتّلقين، أن النظام الإيراني، المشهود له بحربه الإنشائيّة والأيديولوجيّة ضد مؤامرات «الاستكبار»، كان أوّل من صادق على هذه الثورات العربية الشبابية، بل رأى فيها شبابه وادّعى أنها تحاكي ثورته. وفيما أظهرت ثورات الشباب وجود روح توّاقة للتغيير، ورغبة في استعادة الكرامة عنفوانها والانتقام لإهاناتها المديدة، لم يعد يمكن أن نتجاهل حال شريحة كبيرة أخرى من الشباب العربي، الذي وصلت الأمور في تدجينها سياسيّاً وثقافيّاً وفكريّاً إلى حدود مخيفة، جعلت منها أسيرة اللاتفكير. ذاك أنها تردّ كل ما يحدث من حولها إلى المؤامرة والمخططات الكبرى المتربصة بعروبتها واسلامهما. وهذا ما أدى إلى خلق نوعين من التوجه ضمن هذه الشريحة. الأوّل، كفَر بالسياسة والأيديولوجيّات وتبرّأ من مجتمعه، ووصل إلى درجة عالية من التطرف في تماهيه مع مظاهر التغربن السطحيّة، متعالياً ورافضاً لهويّته الوطنيّة واشتغاله عليها، أو هو فعل ذلك مرتدّاً إلى هويّته ما دون الوطنيّة، الدينيّة والطائفيّة، ورأى فيها سكينته وأمانه. والثاني، ارتضى بكنز القناعة الذي لا يفنى، راضياً بواقع الحال، والاستقرار الخامل أو التعاقدي (بين نظامه القويّ وبين مجتمعه)، طالما هو بعيد من الخطر والمجازفة، مبتكراً آليّة نفسيّة تمكّنه من التحايل على الضغط النفسي والتأزم الناتجين عن الإحساس العام بالدونيّة وانتقاص الكرامة. تتمثل بتفكيك هذه المفاهيم، المتعلقة بالكرامة والمهانة والدونيّة وغيرها، وجعلها نسبيّة، ومن ثم يكون رد الفعل النفسيّ عليها بحسب شدّتها ومقاديرها. وهذه، لعمري، هي المؤامرة الأكثر خطراً وفتكاً، التي تربّصت ولا تزال بعقولنا الصّغيرة والكبيرة. * كاتب وصحافي سوري