لا ينفصم جيل الانتفاضات والثورات العربية الذي هيمنت عليه الشرائح الشبابية عن الواقع والبنية الاجتماعية القائمة في الدول العربية، إذ إن الثورات لا تبدأ من العدم، أو تقوم في فراغ سياسي او اجتماعي ، لكنها تعبر عن تراكم طويل المدى ، يحدث في البني السوسيولوجية وأنظمة السلطة.ورغم أن المدركات التي سادت الدراسات والبحوث الاجتماعية، قبل موجة الانتفاضات الأخيرة ، تمترست حول أننا إزاء شرائح شبابية تشكل 60% من السكان العرب - انغمست إما في الثقافة الاستهلاكية الأمريكية و حالة اللا سياسة واللا أدلجة والتسطيح تارة ، وإما في " الانخراط " في الهويات المحلية الدينية أو الطائفية تارة أخري.إلا أن "المفاجأة الإدراكية" أن تلك المكونات التي اعتبرها البعض تستعصي علي ولوج التغيير بدت أكثر فاعلية في التحريك والحشد والإصرار علي دفع تكلفة التغيير، عبر أطر وممارسات شبكية افتراضية وغير سلطوية، سواء في مصر أو تونس أو اليمن وغيرها، باختلاف الدرجات والفاعلية. ملامح جيل الثورات:إذا كان مفهوم الجيل يعبر عن التجربة السياسية والاجتماعية المشتركة لمجموعة الأفراد ، سواء كان صراعا أو تواصلا أو حتي تمردا ، وليس مجرد السن، فإن جيل الانتفاضات العربية اتسم بمجموعة من الملامح التي تراوحت ما بين انخراطه في العولمة بقيمها وآلياتها وأفقها، وارتباطه بمحلية تكوينه السوسيولوجي، لجهة الهوية العربية والإسلامية . ولعل شعار " الشعب يريد إسقاط النظام " الذي رفعته ثورتا مصر وتونس، وامتد لليمن وليبيا، لم يكن تعبيرا فحسب عن محاولة التمرد علي سيطرة جيل علي الحياة السياسية والمجتمعية العربية لعقود، وإنما يمكن فهمه علي أنه توجه لهذا الجيل لبناء عالم جديد (حرية، عدالة، كرامة) يناسب مدركات هذا الجيل التي تشكلت في ظل انسداد الحراك المجتمعي وتجلط شرايين السلطة.وعلي ذلك ، فثمة ملامح أساسية لجيل الثورات والانتفاضات العربية يمكن تحديدها فيما يلي: 1- تنشئة سياسية شبكية لا هرمية، إذ خرج جيل الثورات العربية من رحم تنشئة شبكية . فاستخدام الفيس بوك وبقية وسائل الاتصال الاجتماعي ليس مجرد أداة تواصل كما يراها البعض فحسب، بل تحمل قيما تسللت لتلك الشريحة الجيلية. فالممارسات في هذا العالم الشبكي تكسر السلطة، وترفض التابوهات، وتدفع مستخدميها إلي "بلوغ الخيال السياسي". ولعل هذا هو الذي جعل نخبة من الأجيال القديمة تتصور أن ما يقوم به الشباب في مصر وتونس لا يمكن أن يصل إلي إسقاط النظام، دون إدراك أن الثقافة الشبكية للجيل الجديد تأسست علي كسر أي تابو ، وعدم الانقياد وراء سقف طموحات معين، حتي إننا نجد أن حركة المتظاهرين في مصر كانت تذهب بالمطالب إلي أقصي الطريق كلما تنازل النظام ، لأن خيالهم ليس محدودا بالحسابات السلطوية للجيل القديم. 2- تمازج العالمي والمحلي ، وهو ملمح مهم في فهم الجيل الجديد للثورات العربية ، إذ إن هذا الجيل تخطي مرحلة الأدلجة أو - إن صح التعبير - يمكن وصفه بأنه ما بعد حداثي" تختلط فيه القيم. . 3- إعلام ووعي بديل، إذ إنه منذ بداية الألفية الجديدة، تعرض هذا الجيل إلي وسائل اتصال (إنترنت، فضائيات) لم تكن متاحة من قبل لغيره، أشبعته برسائل إعلامية قوامها فكرة التمرد والرفض لكل ما يأتي من إعلام السلطة. وبينما كانت الاتهامات لشباب الفيس بوك قبل الثوراتالعربية بأنهم يقومون بعمليات تنفيس عما يجول في نفوسهم علي هذا الإعلام البديل، وأنهم يعانون عزلة شعورية عن العالم الواقعي، فإن المفاجأة أن هذا الإعلام البديل وفر وعيا مستقلا وحركيا عن السلطة القائمة،ودمج بين العالمين الافتراضي والواقعي. 4- القدرة علي دفع ضريبة التغيير، إذ إن أحد المدركات الخاطئة التي راهنت عليها السلطات العربية في مواجهة الجيل الجديد هو رفضها لدفع أي ضريبة تغيير، مستندة إلي طبيعة الطبقة الوسطى التي هيمنت عليها ثقافة الاستقرار والسلبية والخوف من الطبيعة البوليسية للدولة. إلا أن هذا الجيل الجديد الذي خرج من رحم هذه الطبقة فاجأ السلطة بقدرته علي دفع ضريبة التغيير. فغالبية من قتلوا في الثورة المصرية ينتمون للطبقة الوسطي بمستوياتها المختلفة. كما شهدت مجموعات الإنترنت دعوات للعصيان المدني انضم إليها عشرات الآلاف من الشباب، وقد وفرت بيئة مناسبة لتطوير الوعي السياسي والثقافي وتطوير أساليب الحركة السياسية والاحتجاجية. 5- إسقاط أسطورة التنظيمات السياسية، إذ إن الجيل الجديد للثورات العربية أسقط فكرة أن التنظيمات السياسية تقود متظاهرين إلي الاحتجاج وعكست المعادلة. فالدعوة للمظاهرة لا تستلزم بالضرورة وجود تنظيم محكم ودقيق يدعو وينظم الشباب، ولكن يتم الاكتفاء بإعلان الدعوة علي الفيس بوك، فينزل الشباب في مختلف المحافظات في توقيت محدد وفي أماكن محددة، دون وجود قيادة، وهو أحد أبرز ملامح ثورة 25 يناير. ثانيا- الجيل الجديد والفعل الثوري: إن العناصر السالفة التي تشكل بعضا من ملامح الجيل الجديد للثورات العربية لم يتحقق لها الفعل الثوري في بعض الحالات العربية، إلا بتوافر بيئة تدفع الطبقات والشرائح الجيلية الأخري داخل المجتمع إلي التحالف معها، والتشابك مع مطالبها. ومن أبرز صفاتها ما يلي: 1- تراكم احتجاجي، إذ إن الجيل الجديد للثورات العربية ما كان له ليحقق الفعل الثوري بدون التقاطع مع ميراث التراكم الاحتجاجي. 2- اتساع الفجوات وتحالف الطبقات، إذ استفاد الجيل الجديد في قدرته علي الفعل الثوري من اتساع الفجوات الاقتصادية والمجتمعية داخل المجتمعية العربية. 3- أزمة حراك اجتماعي، إذ إن الجيل الجديد واجه أزمة حراك اجتماعي، كما في مصر، بدأت منذ نهاية السبعينيات، وأخذت تتعمق أكثر في التسعينيات لتصل إلي انسداد شبه كلي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.