وصلت الانتفاضات العربية سريعاً الى ما يشبه المأزق والارتداد الإشكالي الى مسألة الأسس والمنطلقات في ضوء المآلات الخائبة التي انحدرت وتنحدر اليها تدريجياً، وهي جاءت خلافاً لما توقعته جماهير الانتفاضات. فالخوف الذي ميز العلاقة بين الحكم والمجتمع، في ظل الدولة التسلطية الآفلة يستعاد مجدداً وبصورة أكثر وطأة وإرباكاً. ففي مصر يبدو أن المنحى الذي انتهجه مبارك لا يزال مستمراً، وأن ربيع الحرية الموعود لم تينع أزهاره كما حلم آلاف الشباب الذين استشهدوا او غامروا بحياتهم من اجله، وليبيا تحكمها فوضى الاقتتال الاهلي والحروب القبلية والجهوية والعرقية، واليمن مهدد بالتمزق جنوباً وشمالاً وعصائب وقبائل، وسورية تظهر وكأنها على شفا الانزلاق الى حرب اهلية قد تفتتها الى طوائف ومذاهب وإثنيات وعصبيات. ما مرد ذلك في رأينا إلا ان الانتفاضات العربية التي نهضت تحت شعارات ليبرالية ثورية لم تمتلك الرؤية الليبرالية الثورية التي ستؤسس للعالم العربي الجديد، فكان أن بقيت اسيرة المنطق الايديولوجي إياه، ذاك الذي انبرت الى إسقاطه. ليست لهذه الانتفاضات رؤية ليبرالية للدولة والمواطنية والتغيير والحرية والديموقراطية والعقد الاجتماعي، ناهيك عن المجتمع والآخر والمرأة وحقوق الانسان. في ظل هذا الالتباس كان من الطبيعي ان تعيد الانتفاضات العربية انتاج روح الدولة التسلطية وعقلها الإلغائي الاستئصالي فتُنتهك حقوق الاقليات الدينية والإثنية وتتعرض لأخطار الاجتثاث والتهجير، وكان من الطبيعي ان تبقى النظرة الظالمة للمرأة والممارسات المتخلفة بحقها فتتجدد الدعوة الى إقصائها وحرمانها من حياتها الطبيعية وحقوقها الانسانية حتى في تونس التي كانت رائدة في الخطاب الاصلاحي إزاء المرأة. ولم يكن غريباً في حال كهذه من التردي والتراجع انكفاء الخطاب الوطني والقومي إزاء اليقظة المحمومة للعصبيات ما قبل الوطنية وما قبل القومية، فعادت الى الواجهة التركيبات الطائفية والإثنية والجهوية لتحل مكان الروابط الوطنية والقومية الجامعة. ولم تنجُ الديموقراطية بالذات من الرفض والتكفير فنُظر اليها على انها تهديد للهوية ولمبادئ التراث وقيمه. ما يستدعي في رأينا رؤية نقدية الى مصطلحات خطاب الانتفاضات العربية. رؤية الى مصطلح التغيير الذي هيمن على خطاب الانتفاضات حتى بدا وكأن العالم العربي قد تحول او في طريقه الى التحول الى عالم جديد ومختلف، بينما هذا العالم الذي خُيّل سقوطه وانطواؤه ينتصب بكل وقائعه ومسلّماته وجفائه مخيباً كل التصورات المتسرعة والمتفائلة. فالتغيير والثورة لن يكونا فعلاً إن هما اقتصرا على تغيير الانظمة الحاكمة من دون اطاحة العقل المؤسس لنشوئها وبقائها المديد، ومن دون انقلاب جدي وعميق في أواليات التفكير السائدة لتنشأ على أنقاضها أنماط جديدة ومختلفة تضعنا إزاء ثورة فعلية. ورؤية الى مصطلح الدولة التي تم الاختلاط بينها وبين النظام على يد الانظمة التسلطية، فشُرّع إسقاطها والانتفاض عليها، وغاب ان الدولة في العالم العربي هي مناط العصبة الوطنية الجامعة وسداها، وأن التفريط بها تفريط بالوحدة الوطنية، وانكفاء الى العرى القبلية والطائفية، فإذا كان الانتفاض على استبداد الانظمة مشروعاً بل واجباً، فالواجب ايضاً ألا يتعداه الى تقويض الدولة والمساس بشرعيتها ووحدتها، لأن معنى ذلك الارتداد الى البنى ما قبل الدولتية المتخلفة. ورؤية الى مصطلح الديموقراطية التي افرغت من محتواها الليبرالي وحُوّلت الى آلية زائفة تعيد انتاج الاستبداد، فيما الديموقراطية تحمل مضامين ليبرالية لا يمكن التنازل عنها، من الإقرار بحرية الفرد في الرأي والاعتقاد والتعبير، الى الاعتراف بالمساواة التامة بين الناس، وبين المرأة والرجل بما يؤكد دورها ومكانتها في الوجود السياسي والاجتماعي، الى القول بالمجتمع المدني والعقد الاجتماعي وحقوق الانسان الطبيعية غير القابلة للانتقاص. ورؤية الى مصطلح المجتمع وأزماته البادية والمستترة، فليس ثمة ثورة او تغيير بالفعل من دون التصدي للبطالة المتعاظمة والأمية المتفاقمة والتنمية المتعثرة، والانتاج العلمي والثقافي المتردي، واللاعقلانية والفكر الخرافي المتفشيين اذ من دون تغيير يضع تصوراً لمجابهة هذه التحديات المتمادية ستبقى المجتمعات العربية قابلة للانفجار من داخلها وللانسياق الى الفوضى والحروب الاهلية. هذه في نظرنا بعض الرؤى التي تحول الانتفاضات العربية الراهنة الى ثورات حقيقية كي لا نظل ننتظر ربيعاً عربياً قد لا يأتي. * كاتب لبناني