جرت العادة أن ينافق الموالون الحكام بالتشدق بأن عهودهم لم يقصف فيها قلم، ولم يسجن خلالها صحافي. وفات أولئك، أو ربما فعلوا ذلك عن قصد، أن يضيفوا إلى لائحة الإنجازات الديموقراطية للحاكم الديكتاتور أن عهده لم يشهد تشويشاً أو قطعاً أو حجباً لفضائية، وذلك لسبب واضح، ألا وهو أن عهودهم حفلت وما زالت بمقدار هائل من التشويش. في الأحداث الأخيرة التي يشهدها عدد من الدول العربية باتت لعبة التشويش شعاراً لعلاقة الحاكم بالمحكومين. والمتابع للساحة السياسية العربية والفضائية الإخبارية يمكنه أن يرسم رسماً بيانياً مثيراً يوضح علاقة الأولى بالثانية، وتأثيرهما المتبادل، كما يمكنه استشفاف نوعية العلاقة التي تربط ملكية هذه القناة أو تلك بنظام الحكم في بلد ما. ويمكن المتابع كذلك أن يحلل الشكل العام لشبكات المصالح العربية على مستويي القطاعين الخاص والرسمي. فالفضائيات التي تربط بين مالكيها وأنظمة عربية، علاقات طيبة ترتكز على مصالح مشتركة يلاحظ أتباعها مبدأ التهدئة ومحاولة الإمساك بالعصا الإعلامية من المنتصف في أثناء تغطية الاحتجاجات في الدول الصديقة. ولا تترك هذه القنوات المنهج الوسطي، الذي يميل أحياناً إلى التحيز للنظام على حساب الشعب، إلا بعد التأكد تماماً من سقوطه. ولذلك تحافظ مثل تلك القنوات على نفسها من التعرض للتشويش. قنوات أخرى معروف عن إدارتها أو الجهات المالكة لها مناهضتها للنظام القائم في بلد ما، تجد في الاحتجاجات فرصة ذهبية للتشفي والإمعان في تعرية النظام الموشك على السقوط. وهناك بالطبع القنوات التي يمكن تصنيفها تحت بند الحياد والمهنية، ولو نسبياً. إلا أن لحظات سقوط الأنظمة أو تعرضها لهزات عنيفة تهدد بقاءها. وهنا يبرز سلاح التشويش أو الحجب. وقد شهدت الأسابيع الأخيرة العشرات من الحالات التي وقعت فيها فضائيات عربية ضحية لهذا السلاح. فالتشويش لا يعني فقط عقاب القنوات التي لا تمالئ أو تعادي أنظمة ما، لكنه يعني كذلك حرمان الشعوب الرازحة تحت تلك الأنظمة من مصدر مهم من مصادر معلوماتها. صحيح أن عدداً من تلك القنوات يلجأ إلى أساليب الكر والفر، فمنها ما يعلن عن ترددات أخرى لاستقبال الإرسال، ومنها ما يمعن في الإعلان عن مواقع الإنترنت التي يمكن متابعة برامجه من خلالها، ومنها ما يستخدم تعرضها للتشويش كأداة ترويجية لإثباث جرأتها ومهنيتها وأهميتها التي دفعت نظماً إلى تكبد عناء التشويش عليها. وتجدر الإشارة إلى أن سلاح التشويش قديم قدم البث. وتقدم إذاعة «صوت العرب» المصرية دليلاً. فكم من مرة تعرضت فيها للتشويش في ستينات القرن العشرين، من قبل الدول الاستعمارية التي رأت في ما تقدمه من برامج قومية تهديداً لمصالحها في المنطقة، ما أدى إلى إمعان المستمع العربي في الاستماع اليها. لماذا؟ لأن تشويش الاستعمار عليها يؤكد صدقيتها.