تضرب الشيخوخة كل أعضاء الجسم، بما فيها الدماغ. فبعد الأربعين تتآكل بعض خلايا المخ، وتزداد هذه الوتيرة بعد سن ال65، ما قد يؤثر في القدرات العقلية. إن أكثر ما يهدد الإنسان عندما يتوغل في خريف العمر هو تدهور قدراته العقلية، فعالم الشيخوخة يشهد تراجعاً في مجالين أساسيين على صعيد هذه القدرات هما المعالجة المعرفية والذاكرة اللفظية. لقد وجد باحثون أن المستويات العالية من اللياقة البدنية، والتعلّم المستمر، والتمارين المحفزّة للمخّ، وممارسة نمط حياة صحي وغذائي، والنوم الجيد، وتوثيق العلاقات الاجتماعية، كلها تساهم في حماية القدرات العقلية التي اختلف علماء النفس في تعريفها، لكنها توزعت بين مجموعة من الأداءات ومجموعة من الاستجابات. لا شك في أن العوامل التي أشرنا اليها تساهم في صيانة القدرات العقلية على مدار العمر، لكن يجب عدم إهمال عوامل أخرى يجب أخذها في الاعتبار من أجل حماية هذه القدرات. فعلى سبيل المثل، أثبتت دراسة أميركية حديثة قام بها باحثون من جامعة أوهايو، بعد تحليل بيانات دراسة سويدية تتبعت أشخاصاً على مدى عقدين من الزمن، أن تراجع وظائف الرئة يمكن أن يؤدي الى ضعف في نوعين من الوظائف المعرفية في المخ مع التقدم في العمر، هما القدرة على حل المشاكل وسرعة التعامل معها. وأوضح قائد الدراسة، أستاذ علم النفس في جامعة أوهايو الدكتور شارلز ايمري، أن بعض التراجع الذي تشهده أعضاء الجسم يمكن أن يساهم في تراجع وظائف أعضاء أخرى في الجسم، من هنا الاقتراح الذي تقدم به الباحث بأن على الشخص أن يقوم بأي شيء لضمان الحفاظ على صحة الرئة، كالتغذية الجيدة، والمداومة على ممارسة التمارين الرياضية، وتجنب التدخين، وتفادي التعرّض للملوثات. مثال آخر لا يقل أهمية، فالمعروف أن المدخنين بعد تعرضهم لنوبة قلبية يعانون آلاماً صدرية، وخمولاً عاماً، واكتئاباً، وتستمر صحتهم العامة بالتدهور التدريجي، حتى ولو ظهرت علامات التعافي على وظائف القلب، لكن دراسة نشرتها مجلة «هيلث دي» الأميركية، وشملت أكثر من أربعة آلاف شخص أصيبوا بنوبات قلبية، من المدخنين وغير المدخنين، كشفت أن المدخنين الذين هجروا السيجارة بعد النوبة مباشرة أظهروا تحسناً ملحوظاً في عوارض النوبة، وكذلك في صحتهم العقلية، من هنا تتبين الآثار المدمرّة للتدخين على الصحة العامة والصحة العقلية قبل الإصابة بالأزمة القلبية. وفي دراسة حديثة قام بها باحثون في علم الأعصاب من جامعة نورث وسترن الأميركية وطاولت 500 شخص لمدة 30 سنة تم خلالها رصد قلوبهم وعقولهم، كشفت النتائج أن الأشخاص الذين سجلوا نتائج أفضل في صحة القلب في بداية الدراسة كان متوسط حجم المخ لديهم أعلى في منتصف العمر مقارنة بغيرهم، كما أظهرت النتائج أن الذين كانت مؤشرات صحة القلب أفضل سجلوا معدلات أعلى في اختبارات التفكير والقدرات العقلية. أيضاً، لا بد من الأخذ في الاعتبار أن فصول السنة يمكن أن تؤثر في القدرات العقلية، فقد أظهرت دراسة في جامعة لييج البلجيكية، بمشاركة 28 متطوعاً من أجل تحديد قدراتهم الذهنية تبعاً لفصول السنة، بعد رصد نشاط الدماغ بواسطة الرنين المغناطيسي، أن القدرات العقلية اللازمة لاجتياز الاختبارات كانت مختلفة. وتتأثر القدرات العقلية كثيراً بالسهر وقلة النوم. وفي هذا الإطار، حذرت دراسة سويسرية من خطورة النوم في وقت متأخر على أدمغة الأطفال، وإمكان إلحاق أضرار بالغة بالنمو العقلي وبكل أجزاء المخ، خصوصاً تلك المسؤولة عن الذاكرة. ووجد الباحثون أن قلة النوم تؤثر في شكل خاص في الجزء الخلفي للدماغ المسؤول عن الحركات اللاإرادية والانفعالات، وكذلك على الفص الجبهي المسؤول عن الانتباه والتفكير. وخلص الباحثون الى أن عواقب السهر لا تظهر فوراً بل على المدى الطويل، وأن قلة النوم تضعف القدرة على تلقي المعلومات، خصوصاً تلك المتعلقة بالقراءة والرياضيات. أما الضغط النفسي والعصبي الشديد والطويل الأمد فهو لا يرحم خلايا الدماغ بل يساهم في قتلها، ما يخلق اضطرابات شتى تنال من القدرات العقلية فيضطرب التفكير، ويشرد الذهن، ويقل الانتباه، وتضعف الذاكرة، ويصعب استرجاع المعلومات، ويظهر التردد في اتخاذ القرارات. خلاصة القول، هناك رؤى جديدة حول كيفية الحفاظ على القدرات العقلية في مرحلة الشيخوخة، من دون إهمال السيطرة على الكوليسترول، وضبط ضغط الدم، والحفاظ على مستوى سكر الدم الطبيعي، واتباع نظام غذائي صحي ومتوازن، وخفض الوزن في حال السمنة، وممارسة التمارين الرياضية المنتظمة، والتوقف عن التدخين، كي يبقى الدماغ على وضوحه وحيويته... حتى الرمق الأخير من الحياة. [email protected]