ذاع صيت الكاتب الألمانيّ باتريك زوسكيند بفضل روايته العالميّة «العِطر: قصّة قاتل» التي صدرت عام 1985 واحتلّت المركز الأوّل في المبيعات لمدّة تسع سنوات ثمّ تحوّلت إلى فيلم عام 2006. وإلى جانب روايته هذه، وعلى مرّ سنواته في الكتابة والتأليف، نشر زوسكيند قصصًا قصيرة ونصوصًا أخرى حوّلته إلى أحد أبرز الأدباء الألمان في يومنا هذا، على رغم انزوائه الإراديّ وابتعاده عن الصحافة والساحة الأدبيّة/ الاجتماعيّ. ومن أعمال زوسكيند رواية قصيرة او قصة طويلة بعنوان «حكاية السيّد زومّر» (The story of Mr. Sommer) ترجمها الى العربية الناقد السوري نبيل الحفار وصدرت حديثاً عن دار المدى. وهي قصّة قصيرة لا تتخطّى الثمانين صفحة، تتخلّلها رسوم ترافق النصّ وتضفي عليه شيئًا من الخفّة والطرافة. تدور أحداث هذه الرواية القصيرة في أرياف ألمانيا، في قرية هادئة منعزلة يعرف سكّانها بعضهم بعضًا ويتناقلون الأخبار والمستجدّات في ما بينهم، في زمن لم تكن قد وصلت التكنولوجيا والعولمة إلى ما وصلت إليه في القرن الواحد والعشرين. أمّا الراوي، فهو راوٍ صغير السنّ يروي أخبار طفولته بظرف وعفويّة. فيبدأ الراوي نصّه قائلاً: «في ذلك الوقت، عندما كنتُ لا أزال أتسلّق الأشجار – وهذا منذ زمن بعيد، بعيد جدًّا، قبل سنوات وعقود كثيرة، حينها كان طولي لا يتجاوز المتر إلاّ قليلاً، وقياس قدمي ثمانية وعشرين...» (ص 5). واعتمد زوسكيند في نصّه راويًا واحدًا فقط وصوتًا روائيًا لا يعلم أكثر ممّا تعلمه الشخصيّة. فأتى السرد منحصرًا بضمير المتكلّم «أنا» ولم يتخطّه إلى الشخصيّات الأخرى. وقد نقل الراوي الصغير الأحداث من وجهة نظره وحده وحدّ معلومات قارئه الذي لا يعلم أكثر ممّا يعلمه ولا يفهم أبعد من استنتاجات الراوي الصغير الذي يلهو بألعابه ودرّاجته ويستغرق في وصف صفوفه ومعلّمته والفتاة الجميلة التي يشعر بميل نحوها. يكتشف القارئ مع راويه الحياة والناس والمجتمع. يشعر بحزن الطفل الذي يرافقه، يشعر بارتباكه، بغضبه وبثورته عندما يطاوله الظلم. يشعر كذلك ببؤسه وبرغبته في الانتحار عندما يظنّ أنّ الأمور تسير على عكس ما يشاؤه. فيتحوّل الراوي الصغير إلى ثقب صغير يتلصّص القارئ عبره إلى مشهد الريف الألمانيّ بشخصيّاته وطبيعته وعاداته. وتظهر شخصيّة السيّد زومّر في مواضع متفرّقة من السرد. تظهر بين الحين والآخر كرؤيا، كلغز لا يفهمه الراوي فيعود إليه عندما يملّ الحديث عن نفسه. وعلى رغم أنّ عنوان القصّة هو «حكاية السيّد زومّر»، إلاّ أنّ القارئ لا يعرف شيئًا عن هذا السيّد الغامض الملتبس المعالم. لا أحد يعلم شيئًا عن السيّد زومّر ولا عن حكايته. لا الراوي ولا أهل القرية ولا القارئ يتمكّنون من الإمساك بحكاية هذا السيّد الغريب المجهول الهويّة: «في هذه المنطقة إذن وعلى مسافة أقلّ من كيلومترين عاش رجل اسمه «السيّد زومّر». أمّا اسمه الأوّل فلم يعرفه أحد، أهو مثلاً بيتر أو باول أو هاينريش أو فرانتس- كسافر، أو ربّما الدكتور أو البروفسور زومّر، أو بروفسور دكتور زومّر- كان يُعرف من قبل الجميع ب «السيّد زومّر» وحسب». (ص 11-12). لا أحد يعلم شيئًا عن السيّد زومّر. لا اسم، لا مهنة، لا هوايات، لا شيء. حتّى صوته لا يعرفونه فالسيّد زومّر سيّد صامت لا يتحدّث مع أحد ولا يساير أحدًا. وعلى رغم أنّ الراوي يَعِدُ قارئه بحكاية السيّد زومّر إلاّ أنّه يعجز عن الإيفاء بوعده. فيجد القارئ نفسه أمام رجل لا يفعل شيئًا سوى السير. يخرج السيّد زومّر من بيته مع الفجر ويعود ليلاً. لا هو يتوقّف ولا هو يتعب ولا هو يحادث أحدًا. يهيم على وجهه بين القرى والبلدات بخطوات سريعة نهمة لا تنفكّ تزيد سرعة واحتقانًا مع تقدّم ساعات النهار. فيتناقل الأهالي الإشاعات حول السيّد زومّر الغريب. أهو مصاب برهاب الأماكن المغلقة، الكلوستروفوبيا؟ أهو الباركنسون؟ ما خطب هذا السيد الذي يسير في الأرياف الألمانيّة وكأنّه هارب من أحد. من شيء. أتراه هارب من ماضيه؟ من حزنه؟ من مخاوفه؟... من الموت؟ وبينما يُفتتح السردُ بقصّة الراوي الصغير ويكمل معه، يبقى القارئ على جوعه ليفهم العلاقة بين الراوي والسيّد زومّر. لكنّ العلاقة تبقى ملتبسة وإن مهمّة، لترمي على القصّة بعدًا جديدًا. من هو البطل، أهو الراوي أم صاحب الاسم في العنوان؟ أيّتهما هي القصّة الأساس، قصّة الراوي أم قصّة السيّد زومّر؟ أيّ لغز هو المحور، لغز الراوي أم لغز شخصيّة السيّد زومّر؟ لغة بسيطة وسرد جذل لطيف ينقلان القارئ في رواية قصيرة هادئة إلى الريف الألمانيّ وإلى طفولة جميلة رعناء. معلّمة بيانو مخيفة، درّاجة كبيرة مزعجة، والدة مشغولة قاسية، وسيّد غامض لا أحد يعلم عنه شيئًا. عوامل تجتمع في رواية ألمانيّة تكاد تصلح للفتيان فَلَحَ المترجم في نقل روحها إلى القارئ. فَسَردُ باتريك زوسكيند الخادع يماطل ويداهن ويترك قارئه خالي اليدين، سردُهُ يعِد بقصّة مشوّقة لكنّه لا ينفكّ يرمي بتفاصيل غامضة غير منطقيّة تضاعف ارتباك القارئ وتجعله يشكّ في قدرته على الفهم والتحليل. ليبقى السؤال الوحيد عالقًا في ذهن الجميع: من تراه يكون السيّد زومّر في نهاية المطاف؟