هيكاتيوس « صانع القصص « الذي لم يصنع قصة في رواية القاص محمد النجيمي « مدوّنة هيكاتيوس» الصادرة أخيراً عن مؤسسة الانتشار العربي، هو واحد من رواة عدّة في رواية قصيرة ( 72 صفحة من القطع الصغير)، ما يتسبب في ارتباك يكتشف القارئ أنه متعمّد، ولكن في نهاية الرواية. يكتب هيكاتيوس في خريف العمر « قبل أن ينضب الحرف وتتوه الحكمة» حكاية يصفها بالغامضة، ثمة أشخاص يهزأون منه في حياته وآخرون بعد موته، منهم شخص يمتهن الفلسفة شَتَم الرواة جميعاً، يتجاهلهم هيكاتيوس ويقول انّ الفلاسفة يكتبون من الخارج في مقابل الروائي أو « الراوية « كما يعبّر، فهو لا يملك إلا أن يعيش الكتابة. لعلّ هذا أحد ملامح الاشتباك مع النقد واستعدائه منذ بداية الرواية تاركاً بعض الأثّر في بنائها، وكاشفاً عن نفسه في بعض مفاصل الرواية حيث تتم المقارنة بين كتابة القصة وكتابة الرواية. هيكاتيوس راوي الأحداث ينظر إليها من زمن آخر ويقف أمامها مذهولاً لأنها تحدث في زمن يأتي بعد زمنه بآلاف السنوات، لا يعرف من تفاصيله شيئاً سوى الصفات العامة لبني البشر كالحبّ والحيرة والضياع. ويشترك معه في رواية الأحداث من زوايا أخرى، بطلُ الرواية الذي يروي الأحداث من داخله فيهتمّ برسم المشهد النفسيّ ويغلب على ما يرويه المونولوج الداخلي، إلا أنّ صوتاً داخلياً جديداً، يدّعي الشفقة عليه، يأخذ في التشكّل وهو يشبه دور الشيطان بالنسبة له إلا أنّه يدفعه للتخلّص من ذكرياته المحبوسة عبر كتابتها. لا يبدو أنّ النجيمي قد تخلّص من هيمنة القصّة، فبالإضافة للّغة البالغة الحبك والسبك، ثمة ملمح آخر يجعل الرواية قريبة من القصة القصيرة، فلا نموّ لشخصيات واضحة الملامح عبر زمن الرواية. الجدل الفكري والتأزّم النفسي والحبّ والاغتراب عناصر تنجدل مع بعضها لتشكّل ثيمةً تحتلّ معظم أجزاء الرواية دون أن ينتج عن هيمنتها جدل أو صراع سوى القليل بعد أن يُدخِل الكاتب صوت الأنثى إلى مسرح الرواية. الأنثى المحبوبة حياتها صدى لما يكتب البطل عنها إذ تتحقق كتابته أو نبوءته في حياتها وكأنها مجبرة على أفعالها إلى أن ينتهي بها الحال مجرمة تقتل زوجها وأبناءها، غير أنّ البطلة توقف السرد فجأة، وتصعد إلى المسرح لتعترض على الكاتب وتعيد تفسير بعض الأحداث، تاركة للقارئ علامات تهديه في طريق الإعادة، إذ يبدو مجبراً على إعادة قراءة الرواية القصيرة للمرة الثانية لفكّ غموضها الذي لم يحلّ في القراءة الأولى.