كان كعادته كل يوم، ينقر على «الكيبورد»، ويتنقل بين عناوين بعض الصحف، ثم نهشت عقله فكرة أنه مثل الكومبيوتر الآن، لا يعرف غير الأوامر. حادث نفسه بصوت ارتجت له الحجرة الضيقة: «هل أصبحت يا آدم آلة تخزن ما ترسمه لك الحياة؟». قام من أمام الكومبيوتر. لم يتركه السؤال، وظنّ في هذه اللحظة أن الفكرة مرتبطة بالجهاز الذي أمامه، فقرر أن يعطي ظهره للكومبيوتر. دارت في الغرفة الضيقة دورات كثيرة، وأدرك أن سكون الليل يقتله، وتمنى أن يطلع النهار بكل سيئاته. لكن هذه الفكرة أيضاً بدأتْ تشاغله: إنه في هذه اللحظة وحيد، وميت. وأدرك أنه وحيد فعلاً بعدما فكّر، وعدّ أسماء كثيرة كان يظن أنه يحبها: «يا آدم هل هذه الأسماء موجودة بالفعل؟». شكّ في كل الأسماء التي يعرفها، وحاول أن يستنطقها. بصعوبة بالغة نطق لسانه اسماً أو اسمين متشابهين، وحاول أن يربط بين الاسم وأي موقف. لكنه لم يجد مواقف تذكر، حتى أنه تلعثم في نطق الأسماء القليلة. ثم أخذ وقته في التذكّر، ولم يستعجل دماغه، وأشعل سيجارة، ورشف كوباً من القهوة. «آه يا آدم... كل الأسماء التي تتذكّرها فردية». حاول بإصرار أن ينقّب عن أسماء ثلاثية فأدرك أن لا وجود لاسم ثلاثي على الإطلاق في ذاكرته. تنهد بعمق، وأطلق آهة خلعتْ جلد جسمه. أحسّ أنه عارٍ تماماً من الأصدقاء، ومن الذين يحبهم. لكنه تدارك الموقف، وقال لنفسه: «ربما يكون شخص ما أحبني. أين أنت أيها المحب؟». «لا تكذب يا آدم على نفسك الآن. أنت أخلصت لفكرة تعشقها منذ القدم، ولم تخلص لأحد. تتقرب بمقدار، وتبعد بمقدار أطول. كانت لك جولات مع أناس، تضحك معهم، وتشاركهم أحزانهم، وتخرج معهم في أوقات أنت وحدك تحددها. كل شيء عندك بمقدار»... «يا آدم لا تترك نفسك الآن على سجيتها. أنت القامع والمقموع»! * شارف على الخمسين من عمره. لا يزور أحداً، ولا أحد يزوره. هو لا يخص أحداً بعينه، ولا أحد يخصه. كل ما في الأمر هو أنه يلتقي الناس مصادفة. هم لديه صور، وأشكال باهتة، كما كان يردد لنفسه دائماً. الآن فقط أدرك آدم أن ليس له صورة. لن يتذكّره أحد، ولن يحزن عليه أحد. غصباً عنه فرّتْ منه دمعة محبوسة، منذ أن عرف نفسه في لحظات متشابهة، وحاول بإصرار نسيانها. جوارح آدم المرتعشة تجسدتْ في هذه اللحظة لفكرة الحزن. «آه يا آدم من الحزن النبيل الخالد مع اسمك. أنت حُزننا جميعاً منذ الخليقة، ونحن لك الفرح الذي لم تحسّ به يوماً، ولم تدركه. يا آدم، يا قديم قدم سؤالي، هل أنا أنت؟ سؤال سخيف، وقديم أيضاً»! أزاح آدم اسمه، وأدرك أن الاسم لا يخصه. هذا اسم البشر جميعاً، وبحث عن اسم خاص به حتى لو كان اسماً يهزأ الناس به، وحاول أن يتذكر اسماً كان له في الصغر. لم يجد، فانهار تماماً، وقال لنفسه: «أنت لم تملك لنفسك ولهذا الجسد أي خصوصية». وانصاع لحزنه فعلاً في هذه المرّة، ولم يقاوم. بللتْ الدموع الأفكار التي مرّتْ على خاطره في الغرفة الضيقة. «هل هذه الغرفة الضيقة قبرك يا آدم؟ أنت لا ترد، لأنك تحاسب نفسك الآن بعنف». * عين آدم لا تشاهد إلا الظلام منذ مدّة طويلة. كانتْ تشتاق لأول النهار، وبزوغ الشمس عنوة من مرقد الظلام. كانت تريد الألوان كافة. كانت الأذن تود سماع صخب الباعة والأجساد واحتكاكها، ورنّة الأقدام المتسارعة وهي تخبط الأرض بقوة، ناهيك عن زقزقة العصافير وهديل الحمام. وكان الأنف المزكوم من برد الليل يتمنى ولو مرة واحدة: اشتمام الندى على الأشجار، وأريج الزهور والمحاصيل المزروعة أياً كانت. وكان الفم يحاول تذوق الكلمات الصباحية من دون تكلف أو افتعال. كان يحاول أن يصنع جسراً مع الحركة اليومية، ويشتاق الى طبق الفول والبصل الأخضر على العربة المكشوفة لعين الناس. كان يود أن يشعر باندفاع الناس حوله، حتى يلحقوا بأول خيط من أوقات العمل، ويحملوا صباحاتهم الممزقة بين أعينهم، وهم يطردون ما تبقى من النعاس. * كان ليل آدم للظلمة، وصرير الحشرات الليلية، ونباح الكلاب ومواء القطط، والصمت المطبق. الشيء الوحيد المفرح وسط هذا كله: دعاء الديوك قرب الفجر، لكنه كان يغض السمع عنه، ويحاول أن ينام. * راودتْ آدم هذه الأفكار، وهو يتمطى على الكنبة المستطيلة في حجرته الضيقة. فكّر كم من الأشياء عزف عنها وتركها، أو هي التي تركته. حاول أن يلملم شتات نفسه: «ابني أكيد يحبني»، لكنه ابتسم لنفسه «كيف لصغير أن يحب؟ هل يعرف الحب فعلاً، أم أن حاجته إلي هي الحب؟ هل للحب تعريف محدد؟ آه يا آدم، أنت الآن تسأل مثل طفل»! «يا آدم، الحب شخصي جداً. مغلّف برغبات ومخاوف لا تنتهي. إذا اشتدتْ الرغبات أو المخاوف زاد الارتباط. الحب عبودية لذيذة نمضغها كل وقت. ظاهره الرحمة، ولكن في داخله اللهفة، والشوق، والحنين. تلك الأشياء التي نحبها. يا آدم، أنت لا تدرك الآن أن الحب رغبة جامحة لا تهدأ إلا بالتهامنا». غاب آدم في سؤاله اللعين: «هل ابني حقاً يحبني؟»، وظل متأرجحاً بين اليقين والشك!