تشهد الجزائر حالاً من التململ والغضب الصامت وهو اذا انفجر مع ثورة الشباب في تونس ومصر فسيكون غامضاً وغير واضح، أبكم، وكأنه لم يجد بعد طريقه ليظهر مكبوتات الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية. وإذا كان الأمر يرجع إلى اوضاع الجزائر التي لا تختلف عن غيرها من اوضاع البلدان العربية التي ثارت جماهيرها اخيراً أو التي في طريقها الى الثورة، فالمشاكل واحدة والمغرب في الهم شرق. والجزائريون يشعرون بنوع من الخوف الذي يعود الى سنوات العنف والدم القاتلة التي ذهب ضحيتها أكثر من 200 ألف قتيل وفق الإحصاءات الرسمية وهو الشبح الذي ما زال يجثم على أذهان الجميع وأصبح أيضاً بمثابة «الفزاعة» التي يظهرها النظام لإعاقة أي محاولة جريئة لكسر هذا الحاجز النفسي. ويتذكر الجزائريون ثورتهم الشبابية في أكتوبر 1988 التي قادت إلى كسر شوكة الحزب الواحد الذي كان يحكم البلاد بالطريقة نفسها التي كان يحكم بها الحزبان الحاكمان في تونس ومصر، غير أن ذلك التغيير المبكر الذي قاد الى تحولات ظاهرية مثل الانتقال الى التعددية السياسية وإطلاق سراح الإعلام الحر والمستقل سرعان ما تحول الى أمر آخر بعد فوز حزب إسلامي راديكالي في أول انتخابات تعددية، ما جعل الجيش يوقف المسار الانتخابي، وبدأت بعد ذلك مرحلة العنف الدموية التي أكلت الأخضر واليابس وعطلت كل شيء وقادت الجزائر إلى هاوية مخيفة لم تخرج منها بسهولة. عاد الأمن وعادت الحياة الطبيعية الى الجزائر بعد ما عرف بالمصالحة الوطنية التي تزامنت مع وفرة مالية كبيرة أسالت لعاب الجميع، ولكن لم تتحسن مع ذلك ظروف معيشة الملايين من الجزائريين الذين كانوا يشعرون بأنهم أُهملوا وهمشوا وليس لهم أمل في المستقبل القريب ولهذا انتشرت ظاهرة الهجرة غير الشرعية وظاهرة الانتحار وكثر الحديث في الجرائد الوطنية عن الفساد والمفسدين وغياب سلطة القانون والعدالة والأمن. وإذا كان الكثير من النخب السياسية يثمّن الدور الذي قام به الرئيس بوتفليقة في عهده الأول والثاني في بعث الحياة الاقتصادية، فإن الخلاف بدأ يطفو على السطح منذ أن قام بتعديل الدستور ليسمح له بعهد ثالث وهو الأمر الذي حدث بالفعل والذي أثار شعوراً مقيتاً في نفوس الكثيرين من الجزائريين الذين كانوا يتباهون ظاهراً على الأقل بأن الجزائر ظلت تشذ عن القاعدة في هذا المجال، إذ لم يخلد أي رئيس في مكانه أكثر من عشر سنوات فقط، بل تعاقب على رئاسة الجزائر خلال عشر سنوات خمسة رؤساء، وهكذا بدا الأمر كأنه اختراق لقانون دأب عليه النظام في الجزائر. خلال الفترة الأخيرة أصبح الفساد الذي راح يتغلغل في شرايين الحياة الاقتصادية واليومية يثير الاشمئزاز والضغط، بخاصة مع الكم الهائل من أخبار الرشوة التي كانت تنشرها الجرائد اليومية وهو الذي جعل الجميع يتساءل عن عدم قدرة الدولة على مكافحة هذه الظاهرة لحماية ثروة الجزائريين من النهب اللامحدود الذي تتعرض له. ولم تشذ الثقافة عن هذا الوضع، فهي تميزت ايضاً بوفرة المال وغياب المراقبة التي من شأنها تحصين عملية صرفه وجعله يساهم بالفعل في تنمية ثقافية مزدهرة تحتاج الجزائر إليها، ما دامت الثقافة هي جوهر أي حضارة تريد أن يكون لها موقع تحت الشمس. يتوجه المعترضون من الكتّاب والمثقفين بخاصة إلى خليدة تومي وزيرة الثقافة الجزائرية التي كانت لها فرصة كبيرة في مناسبات مهمة كالجزائر عاصمة للثقافة العربية 2007 والمهرجان الإفريقي وقد خصصت لهما موازنات ضخمة لتحقيق قفزة نوعية للفعل الثقافي والممارسة الثقافية. غير أن الجميع لاحظ أن تلك الطفرات المنتظرة لم تحدث، بل على العكس تعاملت الوزارة المعنية مع الحدثين بطريقة «مناسباتية» ظرفية ولم يكن لهما أثر يذكر في المشهد الثقافي الغارق في ظروف صعبة وفي ظل ما صار يعرف بالفساد الثقافي الذي يقول عنه بعضهم إنه جزء من هذا الفساد العام الذي ينتشر كالجراد في الجزائر الكبيرة. في هذا السياق المضطرب يقول الروائي أمين الزاوي بكثير من الاستياء والحزن: «في الوقت الذي أصبحت الدولة الجزائرية سخية، كريمة كرم الحاتمي على الثقافة، فتصب أسطورة حاسي مسعود ذهبها الأسود في دور الثقافة ودور النشر ودور السينما ودور المتاحف، وأنا سعيد لهذا «الصب»، وأطالب بأكثر منه، ومثلي كثير من المثقفين والكتّاب والأدباء، وكأني بأنبوب البترول أو الغاز هذا، الذي من المفروض أن يصب في الجهة الأخرى للمتوسط، كأني به قد ضيّع مجراه فتم تحويله إلى وجهة أخرى تسمى وجهة الثقافة أو جهة الثقافة. وأنا سعيد لهذا التحويل ولو كان من باب الخطأ أو القرصنة أو التهريب. ولكنني، وفي الوقت نفسه، حزين لحال المبدعين والكتاب وقد تفرقوا «شذر مذر»، كما يقول القدامى، ونحن في هذه البحبوحة المباركة، حين أقرأ حكاية راقصي وراقصات الباليه «الوطني» الذين اغتنموا، بل تصيّدوا، أول خرجة لهم للاحتفال بأعياد «ثورة نوفمبر المباركة»، وما أدراك ما رمزية أول نوفمبر، في مونتريال في كندا، كي يمزّقوا بطاقة العودة ويطالبوا سلطات هذا البلد بمنحهم حق اللجوء السياسي أو الفني أو الثقافي أو سمّه ما شئت. لم يحدث مثل هذا الأمر حتى أيام حكم الرئيس هواري بومدين الذي كان متشدّداً والذي أغلق علينا أبواب الجزائر أرضاً وسماء وماء، أغلقها على رؤوس العباد، لم يحدث هذا حتى أيام قيادة المرحوم محمد شريف مساعدية للحزب الواحد وإصداره المادة 120 الشهيرة، يحدث هذا الآن في زمن التعدد الحزبي و «تشراك الفم والمال الكثير». وبعث الروائي سمير قسيمي برسالة إلى رئيس الجمهورية بعنوان «إنهم يقتلون الكتاب باسم فخامتكم» عبّر فيها عن هذا الوضع الثقافي المزري بحيث يقول: «هذه ليست شكوى. إنها تقرير واف عن حالة موت مستعجلة، ارفعه إليكم ورجائي أن يجد أذناً تصغي وقلباً يفهم وعيناً تبصر ويداً تبطش بزبانية الكِتاب وقتلة الكُتَّاب ممن جعلتهم رعاة على أقدس ما في الأمة على الإطلاق، هؤلاء الذين استأمنتهم على روح الشعب، تلك المسماة ثقافة. إنني أرفع إليك هذا التقرير الصارخ بمعاناة صُنَّاع الحلم وحملة الأمل من مبدعين وكتّاب وجدوا أنفسهم رهائن جزّاري ثقافة لم تعد تحمل من اسمها في فترة استيزار السيدة خليدة تومي إلا تلك الصورة السخيفة التي ارتسمت في أذهان العامة كلما ذكرت لهم، من أنها هذر لا طائل من ورائه إلا المزيد من الهذر. تلك الصورة المتجذّرة في معظم وسائل الإعلام من أنها مزبلة، يلقى فيها الضعاف والمشكوك في قدرتهم وتمكنهم». ونشر الأستاذ الجامعي إبراهيم صحراوي بياناً قصيراً عبر صفحته في «الفايسبوك» تحت عنوان «تعالوا نتناقش حول الفساد الثقافي» ومما جاء فيه: «وماذا عن الفساد الثقافي؟ لنتحدَّث قليلاً عن هذا الأمر. ولنتحدَّث أيضاً عن بعض من يتشدَّقون بالمعارضة اليوم وهم ألصق من غيرهم بالمؤسَّسات القائمة، نهبوا مع من نهب وأكلوا مع من أكل وعلى كلّ الموائد.. طبَّلوا للجميع وساندوا الجميع وغرَّدوا وما زالوا مع كلّ الأسراب.... تجدهم في كل التظاهرات الثقافية شرقاً وغرباً ووسطاً وشمالاً وجنوباً... يقرأون نصوصاً عفا عليها الزمن حفِظناها من كثرة ما ردَّدوها. لنحذر هؤلاء ممن يأكلون على مائدة معاوبة ويُصلّون وراء علي... ويبقى أكبر وجه من وجوه الفساد في الجزائر الحديثة مهزلة اتحاد الكتّاب الجزائريين وكيف سيرته بعض أجنحة السلطة وبعض المتنفعين والأذناب المرابطة بها ممن سبق ذكرُهم». ولعل الأمور معرّضة للمزيد من التصعيد خلال الأيام المقبلة.