لم يعد مقبولاً، بعد الذي جرى في تونس ومصر، الطعن بأهلية مجتمعاتنا لتقبل الديموقراطية، فما كان يراد له أن يبقى غراً بلغ سن الرشد، وحكاية الفزاعات الثلاث التي نصبتها الأنظمة في الحقل السياسي لتخويف الناس من التغيير فقدت وظيفتها! بداية، وبعد معاناة مرة من الاستعمار بقديمه وجديده ومن العدوانية الصهيونية ومن النتائج المؤسفة للحرب على العراق وما عرف بمشروع الشرق الأوسط الجديد، تملكت مجتمعاتنا العربية حساسية كبيرة من التدخلات الأجنبية في شؤونها ونما في وعيها الجمعي عداء واضح للدور الخارجي أياً كان الرداء الذي يرتديه، الأمر الذي استثمرته الأنظمة التسلطية على أفضل وجه لإشاعة ثقافة معادية للديموقراطية على أنها بدعة استعمارية، وللنيل من دعاة الحرية وحقوق الإنسان بذريعة الاستقواء بالخارج وارتباط أجندتهم بمشاريع أجنبية مغرضة! لكن ثورة تونس وانتفاضة مصر قدمتا نموذجاً يحتذى حول قوى التغيير بدلالة الداخل وانتزعتا من أعداء الديموقراطية هذه الفزاعة، ولا يحتاج المرء إلى كبير عناء ليكتشف أن التحركات الشعبية كانت «بيتوتية صافية» إن صحت العبارة، نهضت بأيادي أبناء البلد لا بيد زيد أو عمرو، وفي المثالين بدا دور الخارج محدوداً في تأثيره وعاجزاً، والأصح أنه قد تفاجأ مما حصل بدليل مواقفه المبهمة والمرتبكة وأحياناً المتناقضة، فسرعة تطور الأحداث فاقت قدرته على ملاحقتها ومتابعة تداعياتها، ما أجبر أهم الداعمين لهذين النظامين في الغرب، الدول الأوروبية والولايات المتحدة، على الخروج عن صمتهم، بداية برفض وإدانة ما يحدث من قمع شديد ضد الشارع ثم التحول لدعم الاحتجاجات وحق التظاهر وضرورة الإصلاحات السياسية وأخيراً الإشادة بشجاعة التونسيين والمصريين والاعتراف الصريح بحقهم في التغيير والحرية وتقرير مصيرهم. الخير إنما ينبع من الذات، عبارة كتبتها بالدم التجربتان التونسية والمصرية وبرهنتا على أن سير الأحداث ونتائجها بما في ذلك موقف الآخرين منها يتوقف إلى درجة كبيرة على مدى حضور الإرادة الشعبية وطابع قراراتها، من دون أن تقود هذه الحقيقة إلى تطرف مقابل وإهمال الأبعاد الجديدة لعلاقة الداخل والخارج والتفاعل الكثيف بين المجتمعات بعد التحولات الكبرى التي عرفتها البشرية، وبالتالي الاهتمام بدور العوامل الخارجية لما تملكه من قدرات سياسية واقتصادية مؤثرة في مستقبل التحركات في تونس ومصر. في المقلب الآخر لا أعتقد أن أحداً لم تثر إعجابه تلك المجموعات الشبابية وهي تتسابق إلى تنظيف شوارع التظاهر وساحاته، وهذه الروح من التعاضد والإيثار بين المعتصمين وطرائق تدبير شؤون حياتهم وتنظيم التناوب للبقاء في الميادين وحراستها، وبالمقابل كم كان مؤلماً تلك العدوانية التي أظهرتها بعض الأطراف المتضررة من عملية التغيير، حين لجأت إلى وسائل وحشية وبربرية من سلب ونهب وقتل وحرق وتدمير، للنيل من سلمية هذه التحركات الشعبية وتشويه صورتها. فهل عرف الخائفون من فزاعة الفوضى من هم رجال الفوضى والاضطراب؟! ومن كانت لهم منفعة في تجنيد المرتزقة والبلطجية لكسر إرادة الناس وفي تسهيل هرب أعتى المجرمين من السجون كي يعيثوا فساداً في المجتمع؟! أو من تتوافق مصالحهم مع تثبيت المناخات الأمنية فيهولون من حالة اللاستقرار رداً على دعاة التغيير الديموقراطي؟! لقد كان موقف التونسيين والمصريين واضحاً وحازماً من احتمال اندلاع اضطرابات وفوضى في البلاد، وكان هناك حرص شديد على عدم خروج التظاهرات عن طورها وأن تبقى سلمية بعيدة من ردود الأفعال الثأرية ومن العنف أو ما قد يزعزع الاستقرار، عززت هذا الموقف مبادرتهم السريعة لإنشاء لجان شعبية لحماية أنفسهم وممتلكاتهم ووضع حد لحالة الفلتان بعد انكفاء القوى الأمنية، وعززه أكثر حضور إيمان عام بدور الدولة في عملية التغيير، وبأن لا تؤخذ مؤسساتها بجريرة أفعال السلطة، ولا تهدر فرص الاستفادة من كوادر كانت في الحكم ولا تزال نظيفة اليد للمشاركة في إدارة المرحلة الانتقالية. الفزاعة الثالثة هي تخويف الشعوب العربية والبلدان الغربية في آن من خطر وصول الإسلاميين إلى سدة الحكم، ومن حالات القمع والتضييق على الحريات العامة وحقوق الإنسان التي ترافق هذا النوع من الحكومات، والتي تحاول عادة فرض نمط حياتها على المجتمعات، ما يجهض التغيير الديموقراطي ويزيد فرص تنامي قوى الإرهاب الأصولي. لكن في المثالين التونسي والمصري كان مفاجئاً للجميع تراجع حضور التيارات الإسلامية وقدرتها على إدارة الشارع وتوجيهه، وظهر للعيان أن حركتي النهضة في تونس والإخوان المسلمين في مصر، لا تحوزان وزناً كبيراً وتأثيراً حاسماً كما كان يشاع، من دون أن يعني ذلك التنكر لحضور هذه القوى تاريخياً ودورها في معارضة الأنظمة وما تحوزه من شعبية نسبية في الشارع أو تقزيم دورها المشارك في راهن الثورة ومستقبلها. وبعبارة أخرى فإن ما جرى في تونس ومصر ليس صنيعة الإسلاميين، بل هو، وباعتراف كل القوى المعارضة، انتفاضة شعبية واسعة تعبر عن معاناة وهموم أجيال جديدة من الشباب، وبعيدة كل البعد من الأطر الحزبية والأيديولوجيات الكبرى، ومن شعارات الهوية العريضة، وأقرب في حماستها وحساسيتها وشعاراتها إلى المتطلبات المعيشية وقضايا الحريات والحقوق الفردية. إن التطورات الجارية أظهرت أن ثمة تشوشاً ومبالغة كبيرة في قراءة أحوال الحركات الإسلامية وأدوارها، وأن ما تثيره فزاعة الحكم الإسلامي من مخاوف ومن تهديدات يصعب كشفه ومواجهته من دون انفتاح ديموقراطي يضمن للناس حقوقهم في الاختيار وتقرير مصيرهم، ولنقل إن توفر الحريات وتقدم مفهوم المواطنة هو ما يقطع الطريق على الاندفاعات السياسية الدينية ونوازع التعبئة الطائفية والمذهبية، والأهم على محاولات قطف ثمار هذه الثورات من قبل طرف واحد. ولنسال أفلم يخفف من وطأة هذه الفزاعة الأعداد المحدودة التي كانت في استقبال راشد الغنوشي والتي لم ترق إلى مشهد انتفاضة الخميني ضد شاه إيران كما كان يروج لها؟! أو حين يكون شباب الإخوان المسلمين مجرد مجموعة من مجموعات عدة تشارك في قيادة الحراك الشعبي وتنظم الاعتصامات في ميداني التحرير وسيدي جابر، والتزمت برأي الأكثرية في رفع العلم المصري فقط وليس الشعارات الحزبية والرموز الدينية؟! أو حين يضطر الإخوان المسلمون إلى الانسحاب من الحوار مع نائب الرئيس بعد الجولة الأولى وقد استشعروا أن هذه السياسة تبعدهم عن الشارع؟! أخيراً لا بد من القول إن الصعوبات والإرباكات التي تعانيها المجتمعات في تحولها نحو الديموقراطية تبقى لحظة عابرة في سياق بناء مجتمع صحي ومعافى، هي صعوبات مفسرة واختبارات مفهومة لمجتمعات شلها الخوف وشوهها القهر والفساد، والشرط الأول لتجاوزها هو المزيد من الديموقراطية والمزيد من الثقة بالناس ودورهم الرئيس في عملية التغيير. * كاتب سوري