تشكّل كتابة المقال الدوري، اليومي أو الأسبوعي، تحدّياً مطروحاً على صاحبه، لما تتطلّبه من جاهزية دائمة واستعداد لمواكبة التطورات، ولما تقتضيه من عدة مناسبة. بعض أدواتها الثقافة، والخبرة، والموهبة، والقدرة على نسج العلاقات، والوصول الى مصادر المعلومات... فالمقال الدوري، يومياً كان أم أسبوعياً، ليس نصّاً إنشائيّاً أو قطعة أدبية، بل هو تحليلي، نقدي... يفرد للواقعة، والحدث، والمعلومة، والرأي، والنادرة، والذكرى، مساحات معينة. هو نصٌّ معرفيٌّ بامتياز. لذلك، لا يستطيع أيٌّ كان ركوب هذا المركب الصعب؛ فأن تكتب مقالاً دوريّاً، تحافظ فيه على مستوى معيّن، يكون فيه المقال أداة معرفية - تنويرية، ذلك ما تنهض به قلة من الصحافيين بنجاح، ولعل سمير عطاالله واحد من هؤلاء. في كتابه الجديد «لبنانيات» (دار النهار) يجمع عطاالله مئة واثنين وعشرين مقالاً، نشرها في جريدة «النهار» اللبنانية، يوم الأربعاء من كل أسبوع، بين 3/1/2007 و24/2/2010، أي على مدى ثلاث سنوات ونيّف، في فترة تاريخية حرجة، أعقبت اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وشهدت صراعات وانقسامات بين القوى السياسية، تداخل فيها الداخلي بالخارجي، والمحلي بالإقليمي والدولي. وهكذا، يكون عطاالله شاهداً على حقبة زمنية حافلة بالتطورات والتحولات السياسية. يمارس شهادته من خلال مقال الأربعاء الأسبوعي، على أنه في هذه الممارسة ليس حياديّاً، فهو صاحب رأي وكلمة وموقف، غير أنه موضوعي الى أبعد الحدود، فالموضوعية غير الحيادية بالتأكيد. يوزع عطاالله مقالاته على تسعة أقسام، لكل منها عنوان خاص به، ويضم كل قسم مجموعة مقالات تتراوح بين عشرة في الحد الأدنى وثمانية عشر مقالاً في الحد الأقصى، مع العلم أن نسبة بعضها الى قسم معين تبدو في غير موقعها، وكان الأولى بالكاتب نسبتها الى قسم آخر. في معزل عن التصنيف، فإن المقالات مجتمعة تشكل نوعاً من التاريخ السياسي للحظة تاريخية طويلة، ثقيلة الوطأة، هي تلك التي أعقبت اغتيال الرئيس الحريري ولا نزال نعيش تداعياتها حتى اليوم، أو هي نوع من الأدب السياسي يرصد فيها الكاتب وقائع كثيرة من أساليب ممارسة السلطة وأدبياتها في لبنان، ويعقد مقارنات بين الماضي والحاضر أو بين لبنان وسواه من الدول، ويخرج بخلاصات واستنتاجات غالباً ما يتم فيها تفضيل الماضي على الحاضر، والدول الأخرى على لبنان، في جوانب بعينها. المقال، عند سمير عطاالله، مزيج من معارف متنوعة، ومعلومات، وذكريات، ووقائع، ونوادر، وأقوال، وتصريحات، وتحليل، وموقف. وهو يستخدم هذه المكوّنات بمقادير معينة تختلف من مقال الى آخر. وهذا إن دلّ على شيء، انّما يدل على غنى المكوّنات، وعلى أن الكاتب طبّاخ ماهر يعرف كيف يستخدمها ليخرج بمقال لذيذ لا يخلو من غذاء للعقل، ومن لذة معرفية للقارئ، مع العلم أن بعض الوقائع والذكريات والمقارنات تتكرر بين مقال وآخر، لا سيما حين تتناول المقالات موضوعات متشابهة. يروّس عطاالله بعض المقالات بقول مقتبس من كاتب أو روائي أو شاعر أو رجل دين أو مفكر، وكثيراً ما تكون الترويسة وثيقة الصلة بمتن المقال، وتشكل مفتاحاً مناسباً للولوج اليه. ويتألف المتن من التصريح السياسي، والموقف، والواقعة التاريخية، والمعلومة المعرفية، والذكرى الخاصة، والخبرة الشخصية، والنادرة الطريفة، وأبيات الشعر، والمقارنة...، بحيث تجتمع هذه المكوّنات، جلّها أو بعضها، في المقال الواحد، في إطار من التحليل الهادئ الرصين، يتوجه الى عقل القارئ لا غرائزه، بلغة مهذبة تحترم الآخر، وتؤثر الموضوعية. على أن الموضوعية لا تعني الحيادية. فهو إذ يقارن بين المواقف المختلفة للأطراف، لا يتورّع عن اتخاذ الموقف المناسب وإعلان انحيازه الى هذا الطرف أو ذاك، في موقف بعينه. يحفل «لبنانيات» سمير عطاالله بالكثير من الأفكار والمواقف والوقائع والذكريات... مما يصعب تناوله في مقال صحافي محدود، غير أنه يمكن الإضاءة على ومضات فكرية، ومآثر أخلاقية، ومقارنات سريعة، شكلت علامات فارقة في الكتاب. ففي مخاض الكتابة قد تلمع في هذا المقال أو ذاك ومضة فكرية، جامعة مانعة، تشكل منطلقاً للتحليل أو خلاصة له، وتعتبر زبدة المقال، وبيت القصيد فيه. فيقول عطاالله: «الرئاسة مهمة لا مهنة» (ص15). «أوّل شروط النزاهة الورع لا الجشع» (ص18). «أسوأ ما يحصل لبلد أن يتحوّل حلبة» (ص35). «لكي تستطيع أن تبني دولة أو بيتاً أو كوخاً، يجب أن تكون متحرّراً من عقدة العبد» (ص71). «القائد ليس من تتبعه الناس بل من تذكره. من لا تحاول أن تنساه» (ص98). «النقاء مسألة كلية. الفساد وحده مسألة نسبية» (ص100). «للجماهير أهواء طغيانية، تقاد الى حتوفها دائماً، وهي تصفق» (ص124). «الذين لا يملكون الحرية لا يملكون الحق» (ص128). «المهنة ليست تضامناً أعمى. انها قبل أي شيء مجموعة قيم والتزامات ينظمها القانون العام» (ص151). «ان العالم ليس ما نتوقع بل هو ما لا نتوقع» (ص156). والكتاب سجل حافل بمآثر رجال الدولة والحكم، ممن طواهم الموت وبقيت مآثرهم، فأين نحن اليوم من تلك المآثر وأولئك الرجال؟ يذكر عطاالله أن الرئيس أيوب ثابت يذهب الى السرايا في الترام، والرئيس الياس سركيس يعيد صندوق «المصاريف السرية» كما تسلّمه غير ناقص ليرة واحدة، وأن الأمير خالد شهاب يركب الترام بالطقم الرسمي لأنه لم يعد لديه سواه ولم يعد له من المال سوى خمسة قروش، وأن النائب جان عزيز لا يملك سيارة يزور فيها خاله البطريرك، وأن الرئيس رشيد كرامي يتصرف كرجل دولة ويرفض فكرة الشارع ظالماً أو مظلوماً، وأن الرئيس صائب سلام يرفع شعار «لا غالب ولا مغلوب» لأن الأوطان لا تبنى على القهر، وأن العميد ريمون اده يغضب من علياء الصلح لأنها لمّحت الى حاجته من المال. فهل بين ظهرانينا من السياسيين من يأتي بمثل هذه المآثر؟ وسمير عطاالله في كتابه مولعٌ بعقد المقارنات، غير أن المقارنة الأكثر تواتراً هي تلك التي يشكل لبنان أو ما يتعلق به أحد طرفيها فيما الطرف الآخر قد يكون العراق أو الكونغو أو فرنسا أو أبو ظبي أو الباكستان أو أميركا أو بنين. والمؤسف أن نتيجة المقارنة لم تكن مرة واحدة في مصلحة لبنان في هذه اللحظة التاريخية الثقيلة. فهل يعتبر من في يدهم الأمر والنهي؟ في «لبنانيات»، ثمة مقالات لم تنسب الى المحور المناسب. وثمة مقارنات أو وقائع أو ذكريات أو عبارات تتكرر في غير مقال. ومن هذه المتكرّرات، على سبيل المثل لا الحصر: تشبيه الممثل المصري يوسف وهبي شرف البنت بعود الكبريت في معرض الحديث عن تعديل الدستور، مآثر ريمون إده وعلياء الصلح، المقارنة بين لبنان والكونغو، الكلام مع محمد حسنين هيكل عن المسيحيين العرب...، وهذا طبيعي حين تتمحور المقالات حول موضوع كبير واحد هو لبنان، وحين يربو عددها عن المئة وعشرين مقالاً. الى ذلك، يبقى «لبنانيات» أثراً فريداً في باب الأدب السياسي، القائم على المقال الدوري، يضيء لحظة تاريخية سياسية حرجة معاصرة، ويشكل شهادة أمينة على كمٍّ كبير من الأحداث والتحوّلات التي تمخّضت عنها هذه اللحظة، فيحسن الى التاريخ ولا يتنكّر للأدب. وسمير عطاالله معلّم في هذا الكار.