في معالجة الأزمة السورية، أو الأزمة الدولية في سورية، لا يحوي قاموس المصطلحات المتداولة ما يعبر عن الآلية التي تخرج من تحت عباءتها اتفاقيات خفض التصعيد، فهي آلية امنية عسكرية متخصصة، لكن ما يصدر عنها فعلياً يحدد ملامح الحل السياسي المفقود الذي لم ولن يُعثر عليه في مفاوضات جنيف، وقراراتها (اللوجستية) ترسم الخرائط الإستراتيجية بكل أبعادها الأمنية، والسياسية، والديموغرافية، والاقتصادية، فماذا يبقى من الأزمة إذا تم تنفيذ هذه الخرائط؟ وماذا يبقى للتفاوض في جنيف إذا انتهى الحديث عن المرحلة، أو الحوكمة الانتقالية؟ مفاوضات آستانة تقرّ سياسياً وعسكرياً مخرجات التفاوض اللوجستي وتحيلها للتنفيذ ضمن اتفاقية خفض التصعيد؟ التي تتوسع وتمتد لتشمل «اضافة الى حلب والشمال والجنوب الغربي وشمال حمص» مساحات شاسعة من البادية السورية، تصل الى ريف حمص الشرقي، والقلمون الشرقي بامتداداته حتى أطراف غوطة دمشقالشرقية التي شملها خفض التصعيد في الشهر الماضي، وما تأخير موعد اجتماع آستانة الثامن حتى أواخر الشهر الجاري إلا لإنجاز اتفاقات عسكرية روسية أميركية في هذه المواقع الساخنة، قد لاترضي إيران وتوابعها، ولا تركيا وتوابعها، ولا المبعوث الدولي الذي بادر كعادته إلى الإعلان عن الجولة الثامنة من مفاوضات جنيف بعد آستانة الثامنة مباشرة للإيحاء بترابط المسارين، بينما تدل الوقائع على أن آستانة العسكرية بأبعادها السياسية مفضلة روسياً وأميركياً إلى درجة الاستغناء عن كل ماعداها بما في ذلك الجولات السياحية في جنيف، هذا ما كان واضحاً في جولة جنيف السابعة التي غضّت الطرف عن مجمل مرجعيات جنيف وسلاتها التفاوضية، باستثناء سلة دي ميستورا التشاورية إذ حولها من رديفة إلى وحيدة فوق الطاولة أمام المعارضة الخارجية التي لم يبق لها سوى منبر جنيف، تتمسك به باعتباره قشة النجاة في هذا الخضم المتلاطم من الأمواج السياسية، تمارس وجودها فيه إعلامياً فقط، وقد يلفّه النسيان إذا ظهرت نتائج ملموسة للسلة التشاورية؟ معارضات الداخل السوري، ومنصتا موسكو والقاهرة، يرصدون توجُه دي مستورا إلى الخط التفاوضي التشاوري الدستوري الرديف، الذي يوليه اهتماماً كبيراً، ويتحفظ في الحديث عنه، ويتوسع في آليات العمل لإنجاحه، بالاعتماد على خبرات منظمات مدنية عالمية متخصصة، لتدريب عينات من المجتمع السوري وتأهيلها للقيام بمبادرات مجتمعية، لم تتضح أهدافها القريبة أو البعيدة، وهذا الخط ابن السلة الدستورية التي تمتلك من القوة والدعم ما يجعلها الوحيدة المطروحة للنقاش في الوقت الضائع سياسياً، أو استهلاكاً له في مسألة كانت مؤجلة وآن أوانها؟ فلسفة خفض التصعيد الروسية الإيرانية التركية، ستكون في آستانة الثامنة روسية أميركية تتربّع مفرزاتها فوق الطاولة للتوقيع، وليس للنقاش الذي أشبع لوجستياً وسياسياً، وفيها تختفي لغة الحرب بين النظام والمعارضة، وتوجه كل البنادق على تنظيم داعش، ولم يعد من مجال للتمرد على هذا التوجُّه، فمعظم الفصائل المسلحة لم يعد لديه من مقومات الرفض ما يستخدمه في وجه قوة الفرض الروسي المسكوت عنه أميركياً، حتى بعض الفصائل المدعومة من واشنطن رُفِعَ الدعمُ عنها تمهيداً لآستانة المقبلة وما يليها؟ الرأي العام في الداخل السوري متفائل بأن تشمل اتفاقيات خفض التصعيد كامل التراب السوري، لكنه يرى فيها واقعاً تصعب قراءته كمآل سياسي قد لا ترتاح إليه حتى الأطراف الراضية به، وسيبقى التوجس قائماً، طالما لم يُقرَر مصير تنظيم داعش في شكل نهائي، بينما بات واضحاً مصير الرقة بعد رحيله عنها، وتنظيم جبهة النصرة استقر مآله في ركن خالٍ من الثروات الباطنية (إدلب)، ولم يبق من ثرواته الآثارية ما يسد الرمق، ولولا عطف واشنطن لكان قُضي عليه قبل داعش، وها هو يسرح ويمرح في إمارة إدلب برعاية أميركية، تركية، روسية، إيرانية، قطرية، بينما شقيقه «داعش» تتشرد فلول قواته وسباياه في الفيافي والقفار السورية العراقية، مع أن جميع الأطراف التي تحاربه فوق الأرض السورية لا تريد القضاء عليه، هذا واضح في معارك الشمال السوري، وبمنتهى الدقة تحليلاً وتسريباً لن تنتهي مهمته حتى بنجاح اتفاقيات خفض التصعيد وشمولها كامل التراب السوري؟ فهو يهرب أو يفرّ أو يُطرد، من مكان إلى آخر، ويجمّع فلوله وسط البادية ولن تسْلم من شرّه، ومن شرِّ الحرب عليه، المدن والقرى الواقعة على أطراف البادية من الجنوب والغرب والشمال الغربي، كل ذلك والتلويح بالضربة القاضية، أو الإيهام باقترابها، لم يبدّد الشكوك بعدم وجود قرار روسي أميركي بذلك في المرحلة الحالية على أقل تقدير، وحتى عندما يتم اقتسام الكعكة (السياسية) لن تستغني عنه جميع الأطراف، لكن ليس بعيداً اليوم الذي يودَّع فيه «داعش» بمثل ما استُقبل إعلامياً من (حفاوة واستنكار)، ولن يتأخر عن الهبوط في الساحة متى اقتضت الحاجة إليه، وليس متى يستطيع هو بقدراته الذاتية، ويُخشى أن يُكافأ بحظيرة جغرافية كما شقيقه «النصرة»، ويبقى ظهوره أو احتجابه رهناً بمصالح الدول الداعمة المستثمرة فيه سياسياً وديموغرافياً؟ عندما يختفي «داعش»، ويشمل خفض التصعيد إمارة إدلب، تبدأ بالظهور مرحلة العمل البرغماتي» بزخم روسي وصمت أميركي» للتغيير، أو التطوير، أو الرتوش السياسي، بمساندة السلة التشاورية الدستورية وصاحبها دي ميستورا، ويُنتظر أن تظهر ملامح من هذا التوجُّه بعد انتهاء الجولة الثامنة من مفاوضات آستانة، أما آليات الرتوش الأولية فهي معارضات الداخل، والمنصات العسكرية والسياسية التي تحتضنها موسكووواشنطن، لتحمِّلها أثقالَ العمل السياسي، وإيجاد صيغة دستورية لاستمرار الترابط بين مؤسسات الدولة المركزية وفروعها فوق كامل التراب السوري، في ظل تحديد الفواصل بين المركز والإدارات الذاتية التي هي قيد الإنجاز؟ * كاتب سوري