يبدو أن «خفض التصعيد» أثبت فاعلية على الأرض السورية على رغم استمرار اختراقه من جميع الأطراف، ودخل القاموس العسكري كمصطلح ذي ملامح سياسية واضحة، يقارب العمل العسكري اللوجستي والنتائج دائماً سياسية. وقد نجح مبدئياً في خفض التصعيد العسكري ضمن المناطق المشمولة به، ورفع نسبياً من التصعيد السياسي بين واشنطن وموسكو، ولا يستبعد أن يستفيد من الأزمة القطرية سياسياً وعسكرياً، ولم يُواجَه برد فعل مؤثر من معارضيه السياسيين سوى امتعاض وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف من اختراق واشنطن مناطق لم يشملها قرار الخفض، فاستخدمت القوة ضد قوات النظام وحلفائها القادمين من إيران لمحاربة «داعش»، وقد تحملوا عناء السفر المضني، وقطعوا الفيافي والقفار، واجتازوا حدود دول ثلاث للجهاد، والقضاء على تنظيم «داعش»، ولن يتراجعوا عن محاربته لاسيما بعد تفجيره البرلمان وضريح المرشد المؤسِّس آية الله الخميني، وعلى واشنطن أن تفسح لهم الطريق للانقضاض عليه والانتقام منه في عقر داره (الرقة) والبادية السورية. وواضح أن واشنطن لن تنصاع لرغبة إيران ليس فقط لأنها تشك في نواياها، بل لأن فصائلها وفصائل «داعش» في مرتبة واحدة من حيث أولويات واشنطن في تسديد فواتيرها العربية والإسلامية ولو اضطرت لرفع تدخلها العسكري الى مرتبة تصعيد التصعيد! على رغم كل ما حدث وما قد يحدث في البادية السورية، والصراع على مدينة «التنف» الثلاثية الحدود مع سورية والعراقوالأردن، والرغبة الإيرانية في التمتع بنسيمها الصحراوي العليل، فإن الأنظار تتجه الى الشمال الساخن عسكرياً في الرقة ومحيطها، وسياسياً وعسكرياً في ادلب ومحيطها، لأن هواجس السوريين يقلقها مصير «داعش» بعد طرده من الرقة ودير الزور، وريف حمص الشرقي والشمالي، وتدمر، والموصل، ومن العراق كله، فإلى أين سيرحل ولا أحد من إخوته أو أصحابه أو داعميه يقبل به في أراضيه! كان يؤمل بأن يتسع صدر (إمارة) ادلب لضم «داعش» الى شقيقته اللدودة (النصرة)، لكن هذا الأمل ذهب أدراج الرياح، ليس بسبب التظاهرات الشعبية ضد جبهة فتح الشام (النصرة)، بل لأن صدر ادلب لم يتّسع لطموح أمير واحد، فكيف بأمير وخليفة من جلدة واحدة، كل منهما يتربص بالآخر ويخوّنه، ويكفره، ويبيح دمه؟ على أي حال، نجاح «خفض التصعيد» في المناطق المحددة، لا يبدد احتمال التصعيد الأميركي وقد ظهرت بوادره بتغلغل القوات الأميركية في البادية وعينها على مدينة التنف، وإقامتها مواقع عسكرية متأهبة بالقرب منها، وهي مواقع للتصعيد القتالي وليست منتجعات سياحية لرفاهية الجيش الأميركي. الأجواء العسكرية والسياسية ملبدة، ومساحة الرؤية تتسع حيناً وتضيق أحياناً أمام المفاجآت العسكرية على الأراضي السورية، والسياسية عربياً وإقليمياً. فاتهام قطر بتمويل الإرهاب، وزيادة الدعم العسكري الأميركي لها لمحاربة الإرهاب وتطوع الرئيس اردوغان بالدفاع عن أمن الخليج وليس عن قطر وحدها، ودخول إيران فجأة في بنك الأهداف «الداعشية»، على رغم فتحها الموانئ الجوية والبحرية الإيرانيةلقطر في أزمتها الحالية، كل ذلك سيعرقل جهود جبهة النصرة في التوسط بين الفصائل الموالية والمعارضة، وبينهم وبين إيرانوقطر. ولا شك في أن ما حدث يربك المعارضات السورية كلها، وعلى رأسها الهيئة العليا للمفاوضات، وخيراً فعلت إذ لاذت بالصمت، لكن، حتى هذا الصمت سيؤثر في وحدتها «الفكرية»، ونضالها السياسي، وعلاقاتها بالدول الداعمة العربية والإقليمية. خطورة الأزمة القطرية في ما قد تفتح من نوافذ وأبواب لتغيير أسس الائتلاف والاختلاف في المواقف من أزمات المنطقة، ربما تكون إيجابية لتفعيل وتيرة العمل على الحل السياسي للأزمة السورية، وقد لا تؤثر سلباً في مفاوضات آستانة، لكن المباحثات اللوجستية التي أجريت في الأردن بين روسيا والولايات المتحدة لم يرشح عنها سوى أمرين متناقضين، تصعيد قوات النظام غاراتها على درعا والغوطة الشرقية، وتصعيد قوات التحالف الدولي تدخلها ضد قوات النظام وحلفائها، وكلاهما تصعيد يهدد اتفاقية «وقف التصعيد» بالانهيار عسكرياً وما ينتج من ذلك سياسياً. لكن استمرار المفاوضات العسكرية في آستانة قد يفسح المجال مجدداً أمام الفصائل العسكرية لإنقاذ «خفض التصعيد» من الانهيار، ودراسة علاقة هذه الفصائل بمصادر الدعم المادي والعسكري، ما قد يؤثّر في مشاركتها في مفاوضات آستانة القادمة ومفاوضات جنيف أيضاً، التي عاد الحديث عنها الى الواجهة، وفي لسان بوتين شخصياً، الذي أكد أهميتها بالاستفادة من مخرجات اجتماعات آستانة. الأجواء العسكرية لا تنذر، حتى الآن، باتساع رقعة «خفض التصعيد»، بل بتصعيد الاختراقات، وليست هذه أقلّ وطأةً من الاختراقات السياسية، التي تنذر بتصدع كبير في خطوط خرائط التحالف العربية والإقليمية، والى حد كبير الدولية أيضاً، فالغموض جرّاء العاصفة السياسية العربية والإقليمية يلقي بظلاله القاتمة على جميع الأزمات المتفاقمة على الساحة العربية ومضاعفاتها الداخلية والخارجية، ريثما تأخذ مداها ثم تجنح الأطراف المتصارعة الى فض الاشتباكات السياسية قبل العسكرية، فهي الأساس في حركية المواجهات المتأهبة للتصعيد. لا شك في أن دي ميستورا في أوج سعادته بإنقاذ مؤتمر جنيف قبل ترنحه تحت تأثير مطرقة التصدع السياسي، وما يرادفه من تغيرات في الخرائط العسكرية على الأرض، فهو يستعد لجولة جديدة بدعم أممي وروسي قرأه في تفاؤل بوتين بتثبيت نظام وقف الأعمال القتالية، المهدد بالانهيار بسبب شدة التصعيد الأخير واستمراره من جانب واشنطن ودمشق وطهران! ولن يتأخّر المبعوث الدولي في استغلال هذه الفرصة على رغم ضآلتها، لتوظيفها في سلّته التشاورية الدستورية التي لم يتوقف العمل عليها لا في خفض التوتر ولا في تصعيده.