تصريحات المبعوث الأممي استيفان دي ميستورا، ومؤتمراته الصحافية التي تسبق كل جولة مفاوضات، وترافقها، وتستمر بعد انتهائها، لا مؤشر فيها على وجود تفاوض فعّال في جولات مؤتمر جنيف جميعها، مع ذلك يدعو إلى جنيف، وعيناه ترصدان منصة آستانة التي أنجزت قرار «خفض التصعيد»، فاحتضنه على مضض، واستطاع بحنكته حرف الأضواء عنه إلى الجولة السادسة من مفاوضات جنيف، التي لم تناقش أيّاً من سلاّتها المعتمدة للحوار، فناور واستطاع إدخال خط تفاوضي خارج المؤتمر، موازٍ له، ومكمّل لسلاته الأربع، وهو خط استشاري برئاسته طبعاً (الآلية الاستشارية)، أعضاؤه من التكنوقراط، ويتواصل مع أطياف المجتمع المدني في الداخل السوري، لا يعمل على صياغة الدستور، فهذا شأن سوري، بل يمهّد الأرضية له، ولم يرشح عنه ما يبيّن حدود الاستفادة منه في مرحلة الحوكمة الانتقالية، وما يليها من مراحل لم تتبين معالمها، لا في مؤتمر جنيف، ولا في اجتماعات آستانة؟ تسريبات من مصادر مطلعة تؤكد أن هذه الآلية يجري العمل لاستمرارها برعاية أممية، سواء وافق عليها مفاوضو جنيف أم لا، وأغلب الظن أن وفد المعارضة لم يقرأ مآلاتها القريبة والبعيدة، إذ يرتاب من كل مقترحات الوسيط الروسي حتى ما يتعلق منها بالدستور. أمّا قرار «خفض التصعيد» بأبعاده السياسية والعسكرية، فلا مؤشرات على مباركة واشنطن له، لكن سكوتها يوحي بعدم الاعتراض على أقل تقدير، وهو موقف أو حالة تأمل، قد ينتج عنها حدث مفاجئ، و «خفض التصعيد» هو طرف الخيط، أو بداية الطريق لوقف الاقتتال، إنما بإشراف (روسي- إيراني- تركي!) وكأن الفصائل المسلحة المعارضة، تقبل بهذا الحلف الثلاثي وسيطاً لإبقاء كل فصيل في المساحة التي يسيطر عليها، طبعاً هذا لا يرضي النظام ولا المعارضات جميعها، لكنه هو المآل أو الحل الأولي، شاء من شاء، وأبى من أبى، ففي هكذا حل لوجستي سياسي، سيكون مؤتمر جنيف فاعلاً، إذ تصبح مفاوضاته بين دويلات، أو أقاليم، أو إمارات، أو محافظات، (سمِّها ما شئت)، لكنها لن تكون بين نظام ومعارضيه ضمن دولة اسمها سورية، ولا يستبعد أن الأمور تسير في هذا الاتجاه، وعندئذ ستتعقد مهمة استيفان دي ميستورا، وسيحتاج إلى آستانة أميركية لخفض التصعيد بين الفصائل المتحاربة للاستيلاء على زمام الأمور في كل مساحة يتوقف فيها القتال مع النظام، وقد لا تُقبل وساطته آنذاك، ولا تستطيع «حوكمته» منافسة «حوكمة» المحاكم الشرعية، ولا يستبعد أن تكون الأحكام الشرعية جاهزة بين الإخوة- الأعداء، بانتظار ترسيم الحدود بينهم وبين النظام! «وقف التصعيد» بين فصائل النظام، وفصائل معارضاته، نُفّذ عملياً، ولكن تعكّر صفْوَه بعض الخروقات، وهناك تصعيد بديل يلوح في الأفق غير البعيد، محوره الأساسي «داعش»، ومن ثم «النصرة»، قابل للتفرّع والامتداد إلى ما ليس في الحسبان، عندما تنضج استراتيجيتا طرفي القطبية الثنائية، وفي ضوئها تتحدّد مواقع «خفض التصعيد»، ومواقع «تصعيد التصعيد». مشكلة مفاوضات جنيف لا تنحصر في النظام والمعارضين المفاوضين، بل في تعدد الفصائل المقاتلة لدى الطرفين بأبعادها العربية والإقليمية، ومن ثم الدولية، وآيديولوجياتها غير المعلنة التي لا تستوعبها سلات التفاوض، لا جزئياً ولا كلياً، وهي سبب التخبط في المؤتمر، وداخل وفد المعارضة كما ظهر في الجولة السادسة الأخيرة! واضح أن روسيا كانت تجامل في الإشادة بمؤتمر جنيف وضرورته، وهي الآن تضعه خلفها علانية، وتركّز جهودها على خط التفاوض الآخر في آستانة، وهو خط عسكري فوق الطاولة وسياسي تحتها، قد يكون الأقرب إلى رؤية واشنطن، باعتباره يحشد جميع الطاقات الدولية والفصائلية لمحاربة «داعش» و «النصرة»، وهما الهدف الأول السياسي والعسكري فيما رشح من استراتيجية ترامب في سورية. وعلى رغم تضارب القراءات حول المرحلة القادمة من الأزمة السورية، فإن مفاجأة «الآلية التشاورية» قد تتخللها نكهة سياسية من وراء الستار، تشمل المعارضات التي تعيد تقويم نفسها ورؤيتها سياسياً وعسكرياً، في ضوء التوجُّه الدولي في محاربة الإرهاب والتطرُّف، ودي ميستورا يتفاءل بأن تصب مخرجات هذه الآلية التفاوضية في مؤتمر جنيف خالٍ من الألغام السياسية! محور الأزمة السورية قطعاً لم يكن هامشياً في جولة ترامب، وقممه السعودية، والخليجية، والعربية الإسلامية، وربما لاحقاً الإسرائيلية والفاتيكانية، وسينتج منها تصنيف جديد للحلفاء والأصدقاء والأعداء، بين الفصائل المتقاتلة، وبين الأطراف العربية والإقليمية والدولية المنخرطة في مستنقع الأزمة. ويفترض في ما تضمنته من حشد سياسي واقتصادي غير مسبوق، أن لا تقتصر نتائجها على توظيف القدرة السابقة التأثير للقوة الأميركية، بل يُتوقّع أن تسفر عن زجِّ هذه القوة عسكرياً وسياسياً في الأزمة السورية، أولاً لضرب «داعش» و «النصرة»، ثم تتفرغ لضرب ما صنّفته إرهابياً من فصائل أخرى، و «ضبضبة» التمدُّد الثوري الإيراني إذا فشل التأثير السابق للقوة سياسياً، ما قد يخضع لحوارٍ ساخن، وحرب باردة بين واشنطن وموسكو، تتعدّى هدفهما المشترك، وهو محاربة الإرهاب، لوجود اختلاف جوهري بينهما في قراءة هذا المصطلح ومرتسماته على الأرض، واستثمار الطرفين لهذا الخلاف في الحوار أو المواجهة، لا سيما أن نجاح المقاول الأميركي عربياً وإسلامياً، لا يُلغي الحاجة إلى إرضاء المقاول الروسي، عربياً وإسلامياً أيضاً، بهدف تحقيق اختراق في الرؤية والموقف الروسي، لمرحلة ما بعد هزيمة «داعش» و «النصرة». هنالك كثير مما يؤخذ في الحسبان، عندما تنجلي غيوم التفاهمات بين القطبية الثنائية، وتفصح عن خرائطها الأمنية. أما الآن فيستمر «خفض التصعيد»، والأجواء ملائمة لاستمرار مشروع الآلية التشاورية الدستورية، والحاجة إليه ملحّة كيفما استقرت نتائج زيارة ترامب، وقد بدأ التواصل الأممي مع الخبراء، ومع فعاليات وشرائح مختلفة من المجتمع المدني على جانبي الحدود الفاصلة بين الأطراف الملتزمة وقف التصعيد. وردود الأفعال إيجابية بلا تردد أو حذر، وأغلب الظن أن هذا التوجُّه قد يُعتمد أميركياً وروسياً، بموافقة عربية وإقليمية. أما مرحلة «تصعيد التصعيد» فمؤجلة إلى ما بعد القضاء على «داعش» و «النصرة». * كاتب سوري