للحب درجات في اللغة العربية، تبعاً لأحوال المحبين والحب، وهو وفق ابن منظور «نقيض البغض»، ومعناه الوداد والمحبة. ومن درجاته العشق والوجد والهيام والوله. فالهيام هو شدة الوجد وحال الهائم أشدّ من حال المحب والعاشق، بحيث يمكن الهائم أن يذهب على وجهه، بيد أنّ الوله هو «ذهاب العقل لفقدان الحبيب». إنّ مداخل الشعر هي اللغة، حتى لو كان الشعر ليس هو اللغة، تماماً كمداخل المنزل التي ليست هي المنزل. عند دخولي إلى ديوان رشا عمران الأخير «بانوراما الموت والوحشة» (دار نون، الإمارات العربية المتحدة)، اصطدمتُ بكلمة صورية أجنبية «بانوراما» ومعناها قريب من منظر أو مشهد، تليها كلمتان تجريديتان هما الموت والوحشة. فالعنوان صوري تجريدي للوهلة الأولى، يؤازره الغلاف الغاطس في الأسود الفاحم (للفنان رياض نعمة) مع لطشات بيضاء بريشة خفيفة وأرقام 75 و 37 كأنها مكتوبة بطبشور أبيض على لوح أسود، مع خلفية لوجه عمقه أحمر لكنه محاط بالسواد. تكاد تكون اللوحة شاهدة مقبرة فيها قبور كثيرة وأرقام». لا مفرّ من الانطباع الصوري في هذا الموقف، لا سيّما ان صورة الشاعرة (السورية المولد 1964) واقفة على طرف اللوحة بانفراج ما بين الخدين ونظرة قاسية مواربة، تكاد تحيل الابتسامة إلى نقيضها. ومن ثم الدخول في اللغة من خلال كلمتي «الموت» و «الوحشة». وباعتبار أن للشعر في داخلي شبكة معرفية وإحساسية، فإنني افترضت علاقة إضافية بين الموت والوحشة. هل هي علاقة مرادفة؟ هل هي علاقة تصعيد؟ هل هي مثلاً، وعكسياً، كالعلاقة بين الحب والهيام أو الوله؟ هل الموت أول الوحشة أم الوحشة أول الموت؟ فالموت نقيض الحياة والوحشة نقيض الأنس. وهكذا فالعلاقة النسبية بين المفردتين ليست علاقة مرادفة ولا علاقة تصعيد، بل هي علاقة سببية، فحيث يكون الموت تكون الوحشة. لذلك، وقبل القراءة، قادني العنوان «كسطر النمل» إلى حقل القصائد أو بانوراما النصوص. رحلة كابوسية تضعك رشا عمران من نصها الأول المرقم (1) في دهاليز رحلة كابوسية تستمر فيها وفي تهيؤاتها وصورها وإلحاحها حتى نصها الأخير المرقم (80). ينفتح الديوان فجأة على «دم»: «في السهر دم، في السرير دم، في الجنس دم/ دم في الهواء دم في السجائر دم على الكنبة دم في الأصابع دم في الستائر دم في الدمع/ ... دم دم دم/ ... تستطيع هنا أن تقفل الكتاب وتقول: لقد اندفق الدم كله في نص واحد. فلماذا المتابعة؟». وربما تحسست يديك لترى عليهما أثراً من دم القصائد. وليراودك إحساس بأن دماً غزيراً ويومياً ومحدد النوع والفصيلة والاتجاه هو الذي يسيل من القصائد. وأنك تعرف هذا الدم جيداً، لأنه أيضاً دمك، وأن اسمه الحركي هو «الدم السوري» الآن، وهنا، فيما هو في الحقيقة الدم العربي ودم الإنسان. مفردة «الدم» التي هي المفردة الأم في النصوص، مفردة ملحة وضاغطة، ومن كثرة إلحاحها يكاد ينفجر بها الديوان. إنها تتكرر في النص الأخير من المجموعة عشرات المرات، وحين تصل الشاعرة بها إلى حدود التخمة والاختناق، تخرج منها لكي تقول: «ليس هذا نصاً شعرياً/ هو مجرد يقين أن الحدث/ يحدث هناك يومياً/ وأنني أنا البعيدة الآن/ لا أكف عن اليقين به». هكذا يتحول الدم فجأة، من سائل أحمر بشري يلطخ الفضاء والأرض والناس في سورية، يتحول إلى إحساس، فهو دم مرئي ومنشور ومعمم وليس دماً سرياً، حتى يصح فيه التأويل. إنه الإحساس اليقيني بالدم، الذي لم يعد يتطلب المعاينة المباشرة له، ولم يعد يحتاج الى البراهين اللحظوية عليه. كان في إمكان رشا عمران أن تكتفي بقصيدة «الدم» لتشهد، كما تقول، وتشير إلى أن الحدث يحدث هناك يومياً. ولكن هذا الإحساس ينتابنا، على الأرجح، بسبب كابوسية النصوص وشدة وطأتها، إلى حدّ الرغبة في الهروب، تماماً كما لو تهرب من النظر اليومي لشاشة الموت والدماء السائلة، والأشلاء المبعثرة، والبيوت المهدمة. وربما أحياناً، تتلصص النظر إليها، ثم تقفل الشاشة. ذلك أنّ المسألة تحولت، كما سبقت الإشارة، إلى إحساسك الداخلي، هذا الذي لا ينام. نصوص رشا عمران هي نصوص سورية. كان برغبتي القول هي نصوص كافكاوية لكنني انتبهت إلى أن التنسيب إلى سورية اليوم، أفدح من التنسيب إلى كافكا أو برخت أو آرتو وما كتبوا من كوابيس الخوف والدم والوحشة. إنها تأملات امرأة ماتت أو ترغب في الموت، لأن الآخرين (أحبابها) ماتوا جميعاً. إحساسها بجسدها (الأنثوي) هو انه جسد مفتت، أعضاؤها موزعة على البلاط: اليد، أصابع القدم اليسرى، الشامة السوداء في أعلى الظهر، السرة الملقاة تحت السرير... وعبثاً، المرأة المتفككة تحاول أن تعيد تركيب صورتها، «فتضع أصابع اليد اليمنى في القدم اليسرى» (النص 19). نصوص رشا عمران مفعمة برغبة مازوشية في تشويه الذات، بل برغبة في قبر الذات: «لا شيء يمنع الكنبة الكبيرة أن تكون تابوتاً» (نص 38)، وهي تلاحق تفاصيل التعذيب الذاتي بدأب عجيب، وتهيؤ كابوسي لا ريب فيه، حتى لنسأل، من أين تأتي للأنثى الشاعرة، هذه القسوة؟ «أذهب إلى المطبخ/ أتأمل السكاكين التي اشتريتها منذ مدة / أحمل واحدة منها/ وأعود إلى الغرفة/ على الجدار الفارغ / أرسم ظلال قاتل ما/ وبالسكين التي بيدي/ أحفر في الحائط كي انزع كبده...»(النص 39). على رغم الفراغات البيضاء الكثيرة في صفحات «بانوراما الموت و الوحشة»، وهي بياضات في أعالي الصفحات، فإن السطور السوداء القليلة الباقية، تظهر وكأنها في أسفل الصفحات سطور نمل مرعبة. ويصعب إلى حد كبير، التعامل النقدي مع نص شعري موحش الى هذه الدرجة، بل لعلّ من الصعب قراءته مرة واحدة، أو في فسحة واحدة... لعلها نصوص امرأة تزوجت الموت وأنجبت الوحشة. وبمقدار ما يعدّ صوتها صوت الذات، هو أيضاً صوت الجماعة... «ليس ثلجاً ما تراكم في وسط الغرفة/ تلك هي انا/ ملفوفة بمئات الأكفان/ أستعد لصورة جماعية» (النص 33)... ولكن نشير في أساس النصوص وبنائها، إلى اتجاه تصويري غالب على الكتابة، بمعنى أننا نفترض أن الشاعرة لا تترك اللغة والكلمات على الورقة تتداعى بآلية لغوية غالباً ما هي لا واعية أو ميكانيكية تبعاً للتداعي اللغوي لدى السورياليين... كما وصفوه في أدبياتهم الأولى (أربعينات القرن العشرين)، بخاصة في فرنسا (أندريه بريتون ورنيه شار). بل تغلب عليها نزعة تصويرية كابوسية وواعية، تأخذ من الرسم عناصر كثيرة. نأخذ للدلالة على ذلك الأمثلة التالية: في النص (58): «وضَعَت مفتاح البيت على حجر مركون جانبها/ وابتعدت/ فجأة/ عادت أدراجها/ أخرجت عينها اليسرى من محجرها/ وعلقت فيها مفتاح البيت». نحن هنا أمام صورة سوريالية للرعب. وربما أفضل مقاربة لهذا النص هي المقاربة الصورية التشكيلية. وهنا تحضر، على سبيل المقاربة، لوحات السوري يوسف عبد لكي، بالأسود الفاحم، والأبيض، بكامل سطوتها التعبيرية الواقعية لحدود الرمز، رأس السكين المغروزة بضراوة في لحم الطير مثلاً، بلطة في خشب الطاولة قربها عصفور ميت في قفص، وسواها من شهادات مجاز بالرسم، عن الرعب والقتل، بحيث ترسم الضحايا كعصافير وأسماك ميتة في سكون اللوحة. مشهد سوري بامتياز، بحيث تأتي المخيلة خادمة لفهم الواقع.