عيوننا على مصر وقلوبنا مع أهلها، والأزمة في مصر كارثة عربية عامة، فالأمة تعلو مع مصر وتسقط معها، فلا دولة أو مجموعة دول عربية تأخذ دور مصر القيادي. التركيز على مصر يجعل بعضنا يغفل عن واقع غيرها. لبنان دخل طريقاً مغلقاً، والعراق مستباح، والإرهاب يغتال من أهله كل يوم، والسودان قُسِم نصفين، والشعوب عبر شمال أفريقيا وحتى اليمن ثائرة، والقاعدة تقتل العرب والمسلمين، فهم هدف أسهل من «الصليبيين واليهود». وكنا ننتظر الخلاص من مصر، وأصبحنا ندعو لها بالسلامة. أعرف مصر منذ الستينات، أي انني أعرفها قبل ثلاثة أرباع أهلها، وهي عندي في مرتبة لبنان وفلسطين وسورية والأردن، وكل بلد عربي، ثم لا أفهم ما يجري. علاقتي بمصر علاقة أهلها بها. غير ان هناك حدوداً، فأنا لا أعطي نفسي حق أن أثور على رئيس مصر أو أنتصر له، فهذا حق المصريين وحدهم، والشعب في وادي النيل يقرر هل يُبقي الرئيس أو يَعزله. أقول ان كل «مصريتي» لا تعطيني حقاً هو للمواطن المصري وحده، ثم يأتي أميركي عن بعد عشرة آلاف كيلومتر ليقول للرئيس حسني مبارك ان يترك الحكم «الآن»، ويغيّر رأيه في اليوم التالي ويقول له ان يبقى بضعة أشهر. من أعطى الولاياتالمتحدة حق أن تقرر نيابة عن الشعب المصري؟ باراك أوباما قال للرئيس مباشرة ان يترك الحكم، وأرسل اليه مبعوثاً يحمل هذه الرسالة، ونائبه جو بايدن كرر الطلب لنائب الرئيس المصري عمر سليمان، ورئيس الأركان الأميركي كرر الطلب لرئيس الأركان المصري، ولم يبق سوى سائقي التاكسي في واشنطن ليطلبوا من سائقي التاكسي في مصر أن يعزلوا الرئيس. والآن الإدارة الأميركية تقول ان رحيل حسني مبارك فوراً فكرة خاطئة. أريد أن أرى التفويض الذي يعطي الإدارة الأميركية الحق لتوجيه مثل هذه الطلبات. حتى لو كانت المساعدات الأميركية لمصر هي لوجه الله الكريم والعيون السود للشعب المصري، فهي لا تعني انتزاع قرار سيادي مصري. غير ان المساعدات الأميركية ليست حَسَنة أو حبّاً بالعيون السود، فهي مساعدة لإسرائيل ليستمر التزام مصر بمعاهدة السلام التي حرمت مصر سيادتها الكاملة على سيناء. الرئيس حسني مبارك رأى نتيجة مغامرات جمال عبدالناصر السياسية والعسكرية، ورأى كيف انتهى أنور السادات، وقرر أن يجنب بلاده أية مغامرات. ربما كان موقفه حكيماً ومبرَّراً، إلا انه لم يكن شعبياً، وأستطيع القول ان أكثر من نصف مشاكل حسني مبارك مع شعبه سببها عملية السلام والعلاقة مع اسرائيل. هو يستقبل مجرم الحرب بنيامين نتانياهو في شرم الشيخ وقطاع غزة محاصر والشعب المصري يغلي. لو أن السلام رفع سويّة عيش فقراء مصر لوجد العذر له، غير ان القنبلة السكانية مع الفساد المقيم وسوء بطانة الحكم تضافرت لتجعل غالبية واضحة من المصريين تريد التغيير، وهي غالبية لا تربطها بالسياسة الأميركية أي علاقة، غير الشك في نوايا أميركا الى درجة كره كل ما تمثله في بلادنا. ليس من أخلاقي أن أقول عن حسني مبارك اليوم شيئاً لم أقله في هذه الزاوية وهو في سدة الحكم بلا منازع. بل انني أقول اليوم ما لم أقل عن الرئيس قبل الثورة عليه. كل مصري يعرف أنه كان من أبطال حرب أكتوبر، ويعرف انه كان قائد سلاح الطيران الذي واجه العدو، وجعل عبور القناة ممكناً، ومحا عار 1967 عندما دُمِّرت الطائرات على الأرض. غير ان قلة من المصريين تعرف أن حسني مبارك كان من أبطال المقاومة ضد الاستعمار في أيام جمال عبدالناصر، وكان مع مجموعة من العسكر المصريين أرسلهم عبدالناصر ليقاتلوا مع الجزائريين في حرب الاستقلال ضد فرنسا. المناضلون المصريون اعتُقلوا في المغرب وهم يحاولون التسلل الى الجزائر عبر الحدود، وأُعيدوا الى مصر. كم من المصريين يعرف القصص الأخرى عن نضال حسني مبارك؟ هو بطل مصري، إلا أن هذا لا يلغي ان صوت الشعب أعلى، وإذا قرر أن يرحل الرئيس فما عليه سوى الرحيل... بالكرامة والتوقير والاعتزاز كما يستحق. وأتابع أحداث مصر وأخشى أن أُفجع بالأمة كلها. ثم أتذكر مقالات كتبتها في آخر يوم من السنة الماضية وأول يومين من هذه السنة محرضاً الرئيس المصري على الكونغرس الأميركي، ومذكراً بأمجاد مصر بين 1800 و1850. لو ان الرئيس قبل نصحي، مجرد موقف دولي وإجراءات داخلية، لكنّا في غير هذه الحال. [email protected]