ليس من باب التفاخر، ولكن لضرورة ذكر الحقائق التاريخية، فقد سبق العراقيون التونسيين والمصريين في الانتفاضة ضد الديكتاتورية بعشرين عاماً، وهذا ليس دليل تفوق ثقافي للعراقيين على غيرهم وإنما دليل على عظم الكارثة التي أوقعتها الديكتاتورية بهم مقارنة مع تونس ومصر. امتدت انتفاضة العراقيين لتشمل معظم مدن العراق، منطلقة من البصرة بإطلاق جندي عائد من الكويت النار على صورة كبيرة لصدام حسين وسط المدينة، مشعلا، دون إدراك أو تخطيط، انتفاضة عارمة في كل أرجاء البلاد. شعور العراقيين بمرارة الهزيمة التي جلبها عليهم النظام دفع بالملايين إلى الثورة، ما اضطر الديكتاتور لأن يحزم حقائبه ويبحث عن ملجأ آمن، مخاطبا صهره حسين كامل، الذي لم يسْلَم هو الآخر من بطشه، «انتهينا يوليدي حسين»، وفق رواية الكاتب سعد البزاز، وكان على وشك المغادرة إلى الجزائر، لكن «أمراً ما» حدث وجعله يطمئن إلى البقاء ويقمع تلك الانتفاضة الشعبية بقسوة غير مألوفة في العصر الحديث، إذ قُدِّر عدد الضحايا بمئات الآلاف، دُفن معظمهم في مقابر جماعية اكتشفت بعد سقوط النظام. لم يشهد العراق والعالم العربي مثيلاً لانتفاضة آذار (مارس) العراقية عام 1991، لا في حجم الخسائر ولا في حجم الرفض الذي أبداه العراقيون لنظام قسى عليهم أيما قسوة، وارتكب جرائم لم تكن في حسبان أحد، لكن قسوته وجرائمه تلك ورفض الشعب له، كلها لم تحفز العالم، العربي أو الغربي، للتعاطف مع العراقيين، إلا قليلاً، وهو أمر مستغرب لكن له أسبابه، أهمها الخوف من المجهول، «فالشيطان الذي تعرفه خير من الذي لا تعرفه»، كما يقول الغربيون، وإنقسام القوى العراقية المعارضة، سياسياً وتقوقعها قومياً ومذهبياً، ما تسبب في عدم بروز زعماء وطنيين قادرين على تجاوز الانقسامات، وأخيراً الخطر الذي شكلته إيران على الاستقرار الاقليمي وشعور بعض الدول بالحاجة الى بقاء النظام العراقي لمواجهتها. أسباب اندلاع انتفاضة آذار كثيرة، أولها القمع الوحشي للمعارضين وأقاربهم وأصدقائهم و «سابع جار من جيرانهم» لفترة طويلة، وغياب كامل للحريات الأساسية، واستياء العراقيين الشديد من تخبط النظام المستمر وتبديده ثروة العراق على الحروب والتصنيع العسكري والدعاية الداخلية والخارجية ولجوئه إلى التجسس عليهم وتوظيف أعداد هائلة من العراقيين والأجانب في أجهزة مخابراته وإعلامه، يُضاف إلى ذلك الظلم والإجحاف الكبيران اللذان لحقا بشريحة الشباب، من مواليد الخمسينات والستينات تحديدا، الذين زجهم النظام في حروب مدمرة لا طائل منها ولا هدف سوى إبقائه في سلطة غاشمة أحرقت الأخضر واليابس. لم يشعر العراقيون أن لهم في تلك الحروب والمغامرات ناقة أو جملاً، بل اعتبروها حروباً مسيئة لسمعتهم وعلاقاتهم مع جيرانهم ومدمرة لاقتصادهم ومستقبل أجيالهم. الرئيس الأميركي جورج بوش الأول ناشد العراقيين في شباط (فبراير) 1991 أن «أمسكوا أموركم بأيديكم وأجبروا الديكتاتور على التنحي»! وقد صدَّق الشبان بتلك الدعوة وانتفضوا متوقعين المساعدة من الأميركيين، الذين أرسلوا جيوشهم الجرارة عبر المحيط لمحاربة صدام وإخراجه من الكويت، وقتلوا آلاف الجنود والضباط العراقيين المنسحبين بطريقة وحشية ترقى إلى جرائم الحرب والإبادة الجماعية، لكن ردود فعل الأميركيين كانت معاكسة لتوقعات العراقيين. فبينما كانت المدن العراقية تسقط الواحدة تلو الأخرى في أيدي المنتفضين، أبرم الأميركيون معاهدة مع الديكتاتور في خيمة صفوان تبقيه في الحكم على رغم هزيمته في الحرب. منعوا النظام من استخدام طائراته الحربية، لكنهم سمحوا له باستخدام المروحيات مع علمهم بطبيعة النظام والأهداف التي سيستخدمها لضربها، وهو قمع الشبان المنتفضين من أجل الحرية والكرامة. شكّل غزو الكويت صدمة كبيرة للعراقيين قبل الكويتيين، لأنه كان حماقة تجاوزت الحدود لنظام جائر لا يقيم وزناً لقانون أو عرف. نظام يتخبط في سيئات أفعاله منذ تولي صدام حسين السلطة في إنقلاب دموي على رفاقه البعثيين في تموز (يوليو) 1979 حتى سقوطه بغزو عسكري أميركي. لقد ظن الجميع أن صفحة الخلاف العراقي - الكويتي قد طُويت إلى الأبد مع تطور العلاقات بين البلدين، إذ قدمت الكويت دعماً كبيراً، مالياً ولوجستياً وإعلامياً، للنظام العراقي أثناء حربه مع إيران، ساعده على الاستمرار في الحكم ومواصلة الحرب. كانت انتفاضة آذار العراقية فرصة نادرة لإعادة موازين القوى في العراق وتأسيس نظام عصري يستمد سلطته من الشعب، وكان المدنيون ومنتسبو الجيش، بعثيين ومستقلين، في مقدمة المنتفضين، على رغم محاولة جهات خارجية اختطاف الانتفاضة، إذ دخلت عناصر من دول مجاورة ترفع صوراً لزعماء دينيين إيرانيين وعراقيين ما أثار هلع الأميركيين من أن نظاماً ثيوقراطياً موالياً لإيران قد ينشأ في العراق حال سقوط صدام حسين. وقد يقول قائل إن التجارب اللاحقة أظهرت أن هذا السيناريو كان محتملاً، إلا أنني ممن يعتقدون أنه لو ساند الأميركيون انتفاضة آذار كما وعدوا، أو على الأقل لم يقفوا ضدها، لما كان للإيرانيين دور يذكر في العراق، خصوصاً أن العراق كان قد خرج على التو من حرب مدمرة مع إيران تركت مليون قتيل ومعوق وأربعة ملايين مهاجر ومهجَّر وملايين العاطلين، وأن مشاعر العراقيين تجاه جارتهم الشرقية لم تكن ودية. لكن وقوف الأميركيين على التل وسماحهم للنظام العراقي بقتل الآلاف من المدنيين العزل، وفرضهم عقوبات اقتصادية قاسية على العراق استمرت 12 عاماً، قد تركت جرحاً عميقاً لا يزال نازفاً لدى معظم العراقيين وخلقت مشاعر معادية لأميركا، بعضها لا يزال متأججاً. أما إيران فقد وظفت فشل الانتفاضة لمصلحتها وأظهرت أميركا بمظهر المعادي لتطلعات الشعوب، وكان لديها من الأدلة ما يكفي لإثبات ذلك، وفي الوقت نفسه استقبلت مزيداً من العراقيين الهاربين من قمع النظام. لكن الأغرب أن كثيراً من العرب والمسلمين لم يتعاطفوا مع انتفاضة العراقيين ولم يتفهموها، فقد اعتبرها بعضهم «خيانة» من الشعب للنظام! بينما قال مسؤول عربي «إن إسرائيل تقف وراءها»، وهو المتحمس للتطبيع مع إسرائيل! الانتفاضة الشعبية التي شهدتها تونس أخيراً ومصر حالياً، ليست مستغربة والسبب هو تعثر الإصلاحات السياسية الموعودة وتلكؤ التنمية الاقتصادية. من المرجح أن تتواصل الانتفاضات، في شكل أو آخر، في الدول العربية التي تعاني من المشاكل نفسها، والحكمة تقتضي أن تُجري تلك الأنظمة إصلاحات جذرية عاجلة كي تتمكن من الإمساك بزمام الأمور في بلدانها وتجنِّبها ثورات ستخلف أضراراً سياسية واجتماعية واقتصادية كبيرة. التجديد هو أساس التقدم، وأفضل ما في الديموقراطية أنها تجدد النظام السياسي سلمياً وفي شكل هادئ ومتواصل يحفظ حقوق الجميع، حكاماً ومحكومين. * كاتب عراقي