قد يتوقف الفنان الموهوب ذو الرؤية عن صناعة أعمال جديدة لكن تظل أعماله السابقة بمثابة سجل حافل ينهل منه الجمهور فتجعله حاضراً على الدوام. وهذا ما ينطبق على المخرج المصري علي عبدالخالق أحد رواد الواقعية الجديدة في السينما المصرية. تخرج عبد الخالق في المعهد العالي للسينما عام 1966، واتجه إلى إخراج الأفلام التسجيلية والقصيرة التي حاز عن بعضها جوائز دولية ومن بينها «أنشودة الوداع و «السويس مدينتي». ثم جاء انطلاقه في عالم إخراج الأفلام الروائية الطويلة عبر «أغنية على الممر» الذي أنبأ عن موهبة نابضة تتفتح براعمها في عالم السينما وحقق الفيلم نجاحاً كبيراً، إضافة إلى الاحتفاء الدولي، إذ توج بالجائزة الثانية من مهرجان «كارلوفي فاري» عام 1972، وجائزة من مهرجان «طشقند» السينمائي. عدو إسرائيل رصد علي عبد الخالق وقدّم عبر أفلامه قضايا واهتمامات مراحل عدة مختلفة في مصر. فانشغل خلال حقبة السبعينات والثمانينات بالصراع العربي الإسرائيلي وبدا كالمقاتل عتاده موهبته والكاميرا ليصنع أفلام «العار» و «إعدام ميت»، وامتد انشغاله حتى عام 1999 بفيلم «الكافير» ثم 2004 من خلال فيلم «يوم الكرامة»، ما جعل الصحافة الإسرائيلية تصفه ب «العدو الأول لإسرائيل». ولم يغب عنه البعد الاجتماعي، إذ عرض التحولات والمستجدات على المجتمع في الثمانينات والتسعينات ومنها أفلام «الحب وحده لا يكفي» و «السادة المرتشون» وثلاثية «الكيف» و «العار» و «جري الوحوش»، فيما قدم من خلال «البيضة والحجر» حالة الهوس والانصياع للدجل والمشعوذين، طارحاً رؤيته في شكل يصعب توصيفه وبمزيج خلاق بين الجدية والكوميديا السوداء. تراجع إنتاجه السينمائي مع الألفية الجديدة، وبعدها اتجه إلى إخراج عدد من المسلسلات، ليودعها هي الأخرى منذ عام 2009 عبر مسلسل «البوابة الثانية» لنبيلة عبيد، فيما جاء آخر أفلامه عام 2006 حاملاً مسحة سياسية ساخرة بعنوان «ظاظا». ومنذ ذلك الحين والمخرج البارز يؤثر الابتعاد عن الساحة على أن يكون حضوره باهتاً أو عبر عمل لا يرضاه، احتراماً لنفسه وتاريخه الممتد لاسيما أن ما يعنيه هو القيمة، ومع ذلك مازال حاضراً عبر أفلامه التي تجذب جمهوراً عريضاً مهما تكرر عرضها على شاشات التلفزيون. «الحياة» بحثت عن أسباب الغياب مع صاحب العلاقة وحاورته حول كواليس رحلته الفنية. لماذا قررت الابتعاد عن السينما والإخراج؟ - ذات يوم اكتفيت بما صنعته من أفلام بلغت 40 فيلماً على مدار تاريخي، وتلك الأعمال مازالت تعرض على القنوات التلفزيونية المختلفة في شكل متواصل. أما مبعث هذا الغياب فهو الظروف الإنتاجية التي اختلفت عن سابق عهدها، وربما تكون الظروف الوحيدة التي يمكن العودة من خلالها للإخراج السينمائي حينما تعود الدولة إلى حلبة الإنتاج مرة أخرى. فالدولة تراجعت عن الإنتاج فعلياً منذ فترة، إذ ترى أن ثمة أولويات أكثر أهمية في المرحلة الراهنة. لكنني أختلف مع ذلك الطرح، لاسيما أن الفن يؤثر بقوة في الشعوب، وتأتي السينما على رأس القوى الناعمة لمصر، وهذا لا يقلل من قيمة الفنون الأخرى لكنها تظل أكثر الفنون تأثيراً، إذ يقدر جمهورها بالملايين. شروط من؟ هل ثمة شروط لا ترضاها يفرضها المنتج الخاص؟ - لم يعد المنتج يقود أو يدير عملية صناعة الفيلم بل أضحت تساق من قبل نجم العمل فهو صاحب الرأي الأول والأخير في التفاصيل المختلفة، وتراجع دور المخرج وأنا لا يمكنني العمل في ظل هذه الأجواء، إلى حد ما لأن النجم مهما كانت ثقافته فلن يكون كالمخرج، من الممكن أن يكون ممثلاً جيدًا ويفهم التمثيل والسيناريو ويميز بين الشخصيات، لكنه لا يدرك العناصر الأخرى كالإخراج أو المونتاج أو الديكور أو الكاستنغ، لكونها شأن المخرج الذي قضى سنوات عمره في دراستها وممارستها. ولا أعيب أو ألقي باللوم على المخرجين الشباب لاضطرارهم لذلك، وإلا ما وجدوا أفلاماً يخرجونها، لاسيما أن هذا هو المنطلق السائد. لكن ثمة استثناءات قليلة بين هذا الجيل الذي يضم مخرجين متميزين حافظوا على وتيرة واحدة للعمل يكون المخرج خلاله هو القائد وصاحب الرؤية الأساسية. تحولت خلال فترة من الفترات إلى إخراج المسلسلات لكن عزفت عنها هي الأخرى، لماذا؟ - لأن المنطق ذاته الموجود في السينما انسحب إلى المسلسلات. مهما يكن أنا لا أصنف نفسي مخرج أفلام أو دراما، وأردد دائماً جملة «أنا زائر»، فإذا أعجبني الموضوع أقوم بإخراجه وإذا لم يعجبني لا أقبله. ولم يحدث يومًا أن قمت بطرق باب منتج أو الاتصال به بل هم من يبادرون بالتواصل معي، وعادة ما ينتهي الأمر حتى من دون مقابلات ويُجهض المشروع على التليفون. حملت بعض أفلامك اهتمامًا خاصاً بقضية الصراع العربي – الإسرائيلي بينها أفلام استخباراتية وأخرى حربية ... لماذا؟ - لكون هذا الصراع هو القضية الأساسية للعرب ولابد من التذكير به، وأي شخص وطني سواء كان مخرجًا أو كاتباً عليه الاهتمام بها باعتبارها قضية العرب الأولى، فإسرائيل هي العدو الأول لنا، لقد وضع الكيان الصهيوني فجأة وسط العالم العربي وتولّد عن ذلك صراع وجود. على رغم أنه يكاد يتوارى اليوم وراء أنواع عديدة من الصراعات العربية – العربية. وهو أمر مقصود بالطبع، وإستراتيجية أميركية أعلنوا عنها بأنفسهم وتقوم على تقسيم العالم العربي إلى دويلات صغيرة لمصلحة أمان إسرائيل واستقرارها، ولست ضد اليهود كديانة ولكن ضد الصهيونية الاستيطانية القائمة على احتلال أرض ليست ملكاً لهم. على رغم أجواء الحرب في فيلمك «أغنية على الممر» 1972 إلا أنه يظل أحد أكثر الأفلام عذوبة... كيف نسجت ذلك؟ - تقوم أحداث فيلم «أغنية على الممر» خلال حرب النكسة 1967 حول مجموعة من الجنود الذين ينقطع اتصالهم بالقيادة ومع ذلك يتمترسون في موقعهم الحربي ويدافعون عنه حتى الموت. وعرض الفيلم خلال جولاتي في مهرجانات أوروبية كثيرة ولمست إعجابًا كبيرًا من قبل الجمهور الأوروبي، على رغم أنه لا فكرة لديهم عن الصراع العربي - الإسرائيلي الذي لا يعدو كونه مجرد عناوين يطالعونها في الأخبار فقط، من دون إدراك ماهيته أو أبعاده. مع ذلك صادف الفيلم صدى طيباً ما جعلني مندهشاً وربما يأتي تفسير ذلك بفعل أن الفيلم مفعم بالإنسانية، فأبطاله بشر عاديون أحلامهم وطموحاتهم بسيطة، ولا يرفعون شعارات ضخمة بل يرغبون في حياة عادية، يتمتعون بمشاعر بشرية طبيعية بين الخوف والجبن وضعف ومن هنا جاء هذا الأثر القوي. أنجح أفلامي شكلت ثنائياً ناجحاً مع الكاتب الراحل محمود أبوزيد ... هل كان الانسجام بينكما سبباً في نجاج أفلامكما المشتركة ومنها «الكيف» و «العار» و «البيضة والحجر»؟ - جمعتني الصداقة مع محمود أبوزيد عبر 50 سنة وتوطدت خلال مرحلة الدراسة في معهد السينما، وكنا دائمي التشاور، وعندما قرر أبوزيد الاتجاه إلى إنتاج الأفلام عملت معه في أول أفلامنا معاً وهو «العار». وبالطبع صنعت الصداقة قدراً من الحميمية وجعلت التفاهم أكثر سهولة لاسيما أن صناعة الأعمال الفنية تعتمد على الأحاسيس على عكس أي مهنة أخرى. ولا يمكن تحديد متى ينتهي دور المخرج ويبدأ الكاتب. فالعلاقة متشابكة، وكنت أتناقش معه حتى نصل إلى الصيغة المثلى في العمل. لذلك نجحت تلك الأفلام التي اهتممنا فيها بكل التفاصيل الدقيقة للأحداث والشخصيات والسلوكيات، وأعتقد أن أنجح أفلامي تلك التي صنعتها مع أبو زيد والعكس، فالصداقة بين المخرج والمؤلف تمثل نماذج متكررة في مصر والعالم. من بين أعمالك فيلما «بونو بونو» و «الإمبراطورة» لنادية الجندي وهي صيغة مختلفة عن أفلامك هل أضطررت لإخراجها تحت ضغط مقتضيات السوق السينمائية؟ - لم يحدث ذلك على الإطلاق، ولم يكن مخططًا أن تكون نادية الجندي هي بطلتها بل أخرى، وحين قامت بالتمثيل كان السيناريو جاهزًا ومنتهياً، هي أبدت فقط بعض الملاحظات المقبولة والتي قمت بالعمل عليها مع المؤلف مصطفى محرم وهذا وارد مع كل الفنانين حيث يخضع الأمر للنقاش، فلا أمارس الديكتاتورية قبل التصوير، ولكن مع انطلاق التصوير تصير وجهة نظري كمخرج هي الوحيدة حتى وإن كانت خاطئة، لضرورة أن تتمتع الأعمال الفنية بوحدة وجهة النظر، حتى وإن كانت خاطئة لكن تبقى «وحدة الخطأ» هو الأمر الصواب. يشتري دبابة ويصنع فيلماً قلت إن عبدالناصر هو أهم الرؤساء تأثيراً في ثقافة الشعب لماذا؟ - لأن عبدالناصر هو باعث النهضة الثقافية خلال المئوية السابقة والتي استمر تأثيرها حتى اليوم، إذ وضع إستراتيجية ثقافية مازلنا نعيش عليها، فأُنشئ في عهده معهد السينما والكونسرفتوار والباليه وأوركسترا القاهرة السيمفوني ومعهد التذوق الفني وهيئة السينما وهيئة المسرح والسيرك القومي وفرقة رضا، والثقافة الجماهيرية، فيما كانت قصور الثقافة تصل القرى والأقاليم وكلها هيئات ومؤسسات مازالت موجودة وأثرها وتأثيرها باقيان في النهضة الثقافية. وعقب نكسة 1967، كانت الدولة تعيد بناء الجيش، فتذهب الأموال إلى المجهود الحربي وانحسر الإنتاج الفني، ما أدى إلى ذهاب الفنانين والمخرجين والمؤلفين المصريين إلى العمل في أفلام لبنانية، فاستعان الرئيس عبدالناصر بالكاتب عبدالحميد جودة السحار وعهد إليه برئاسة مؤسسة السينما وطلب منه التعاقد مع هؤلاء الفنانين للعمل في أعمال مصرية ولم تكن أفلاماً وطنية بل تنوعت بين الكوميدي والاجتماعي، ومن هنا تنبع أهمية عبدالناصر الذي رأى الفيلم مثل الدبابة، فكان يشتري دبابة ويصنع فيلمًا، ما يوضح حجم النهضة الثقافية حينها وتأثير الثقافة والفن في بناء الشعوب آنذاك. ولماذا اختفى الاهتمام بالفن والثقافة بعد رحيل عبدالناصر؟ - في الحقيقة تحمس الرئيس أنور السادات للفن إلى حد ما بينما لم يره الرئيس مبارك إحدى أولويات المجتمع واهتماماته، أما الرئيس السيسي فلا يمكن الحكم عليه لأنه تسلّم البلاد في ظروف عصيبة ومعظم الأمور لم تستقر بعد، وأنا من المتفائلين بالثورة التي ستستغرق نتائجها سنوات حيث يعقبها مقدار من التخبط إلى أن تبدأ مرحلة التعافي ويبدأ المجتمع الحراك، وإعادة بناء مفاصل الدولة.