بدا المشهد المصري أمس وكأن طرفيه، الحكم والمعارضة بكل أطيافها، كطرفي مقص كُلّ يسير في اتجاه. التلفزيون الرسمي يبث أداء الوزراء الجدد في الحكومة التي شكلها الفريق أحمد شفيق اليمين الدستورية أمام الرئيس حسني مبارك، وجحافل المواطنين تتجه من كل صوب قاصدة ميدان التحرير للانضمام إلى تظاهرة حاشدة ضمّت عشرات الآلاف على أمل بأن تتحول «مليونية» اليوم. وهكذا كان واضحاً الانفصال التام بين الخطوات الرسمية والشارع. كل في واد يسعى إلى الصمود في معركة «النفس الطويل» التي يجاهد الجيش لضمان ضبطها وعدم انفلاتها متسلحاً ب «الحياد». لكن الأحداث تبدو أنها تسير في نسق متسارع جداً بحيث أن ما كان مقبولاً أمس لم يعد له محل من الإعراب اليوم. فتغير بعض الوجوه في الحكومة لا يُقنع المتظاهرين الذين باتوا لا يعبأون بما يعلنه النظام الذي يضعون «إسقاطه» نصب أعينهم فقط. وتزايد الحشود في الميدان رفع سقف المطالب إلى حد «المحاسبة» لا «الرحيل» فقط. وفي موازاة ذلك، ازداد الانفلات الأمني خطورة على رغم بدء انتشار قوات من الشرطة في بعض المناطق «على استحياء». واللجان الشعبية التي شكلها الأهالي لحماية ممتلكاتهم اختلط فيها «الحابل بالنابل»، خصوصاً حين يرخي الليل سدوله. بات التجول في القاهرة ليلاً محظوراً ليس بسبب قرار حظر التجول ولكن خشية استيقاف المارة من بلطجية لسرقتهم. كما أن الطلقات النارية التي تدوي في مناطق مختلفة، حتى القريبة من نقاط تمركز الجيش، لا أحد يعرف مصدرها. كما أن المؤسسات الصحية والخدمية انهارت فأصيبت الحياة بالشلل. هكذا تبدو الحال في مصر اليوم. ووسط ذلك كله تبدو المعارضة منقسمة على نفسها، في ظل عدم الاتفاق على الدكتور محمد البرادعي ولا على «الإخوان المسلمين» ولا أي من الأحزاب كي يمثّل مطالب المحتجين. وكان لافتاً أمس ما جاء في البيان الرابع للجيش الذي شدد على أن «حرية التعبير بالطرق السلمية مكفولة للجميع». وقال البيان إن «القوات المسلحة على وعي ودراية بالمطالب المشروعة للمواطنين الشرفاء». ووعد بأن «القوات المسلحة لن تلجأ إلى استخدام القوة ضد هذا الشعب العظيم وهي الدرع الواقي له». وخالف التشكيل الحكومي الذي أعلن أمس بعد 48 ساعة من الفراغ الحكومي التوقعات. فالوزارة التي ضمت 28 وزيراً نصفهم جدد ليست عسكرية لكنها حكومة من التكنوقراط غاب عنها رجال الأعمال على عكس حكومة أحمد نظيف المستقيلة، في محاولة لإرضاء الشارع الساخط على «الرأسماليين» و«أصحاب الفكر الجديد». كما لوحظ تصعيد محافظين لديهم قبول شعبي في محافظاتهم لتولي مهمات وزارية، في حين خلت الحكومة الجديدة من أسماء طالما أرّقت قراراتها الشارع المصري. وقد غابت المجموعة الاقتصادية التي ظلت تتغنى بمعدلات النمو، عن المشهد. وزير الداخلية الجديد محمود وجدي استدعي من التقاعد، فقيادات الوزارة بات «مغضوباً عليهم» من الشارع. انتهى وجود الوجوه العتيدة أمثال وزير الثقافة فاروق حسني والتجارة والصناعة رشيد محمد رشيد والإسكان أحمد المغربي والمالية يوسف بطرس غالي والأوقاف محمود حمدي زقزوق. بل إن بعضهم سعى لدى الفضائيات لترويج أخبار عن رفضه قبول تكليفه بمنصبه الوزاري القديم. تجاهل التشكيل الحكومي ثلاث وزارات هي التربية والتعليم، السياحة والتنمية الإدارية لم يكلف أحد بمهماتها، وفيما تحدث التلفزيون الرسمي عن تسمية وزيرين للوزارتين الأوليين تجاهل تماماً الأخيرة، في مؤشر إلى ارتباك وصعوبة في اختيار الوزراء وربما رفض تكليفات. واستحدث التشكيل منصب نائب رئيس مجلس الوزراء الذي شغله وزير الدفاع والإنتاج الحربي المشير محمد حسين طنطاوي ووزارة للآثار تولاها الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار زاهي حواس وأخرى لشؤون مجلس الشورى تولاها محافظ الشرقية السابق يحيى عبدالمجيد. واحتفظ 14 وزيراً بمناصبهم في الحكومة الجديدة برئاسة الفريق أحمد شفيق، هم: وزراء الدفاع والإنتاج الحربي المشير طنطاوي، الدولة للشؤون القانونية ومجلس الشعب مفيد شهاب، الإنتاج الحربي سيد مشعل، البترول سامح فهمي، الكهرباء والطاقة حسن يونس، الدولة للتعاون الدولي فايزة ابو النجا للتعاون، الخارجية أحمد أبو الغيط، البيئة ماجد جورج، الإعلام أنس الفقي، الاتصالات طارق كامل، التعليم العالي هاني هلال، القوى العاملة والهجرة عائشة عبدالهادي، ممدوح مرعي للعدل، والأسرة والسكان مشيرة خطاب. وضمت الوزارة 14 وزيراً جديداً غالبيتهم محافظون وتكنوقراط، هم: وزراء الدولة لشؤون مجلس الشورى يحيى عبدالمجيد مصطفى (محافظ الشرقية السابق)، التنمية المحلية محسن النعماني (محافظ سوهاج)، الأوقاف عبدالله الحسيني (رئيس جامعة الأزهر السابق)، الإسكان والمرافق العمرانية محمد فتحي البرادعي (محافظ دمياط)، الآثار زاهي حواس (الأمين العام السابق للمجلس الأعلى للآثار)، الداخلية محمد وجدي محمد (رئيس مصلحة السجون السابق الذي استدعي من المعاش)، التجارة سميحة سيد فوزي، المالية سمير رضوان، الطيران ابراهيم مناع (رئيس شركة مصر للطيران السابق)، النقل عاطف عبدالحميد مصطفى، الثقافة جابر عصفور (رئيس المجلس الأعلى للترجمة والنشر)، الصحة أحمد سامح حسني، الري حسين احسان العطفي، الزراعة ايمن فريد أبو حديد. وجاء في خطاب التكليف الذي وجهه الرئيس مبارك للحكومة الجديدة أن «الوطن يجتاز ظروفاً دقيقة وأوقاتاً صعبة تضع مصر وشعبها في مفترق طريق حاسم وتفرض علينا جميعاً الدفاع عن استقرار الوطن وما تحقق لأبنائه من مكتسبات»، وفي حين أقر الخطاب بأن من خرجوا في التظاهرات «السلمية» مجموعة من «شباب مصر ومواطنيها الشرفاء لممارسة حقهم في حرية الرأي والتعبير»، اعتبر أن «صفوفهم اخترقتها قوى ترفع شعارات الدين وتضرب عرض الحائط أحكام الدستور وقيم المواطنة وأركان الدولة المدنية (في إشارة إلى جماعة الإخوان المسلمين) سعت لإشاعة الفوضى وزعزعة الاستقرار والانقضاض على الشرعية وإتاحة الفرصة لعناصر إجرامية للاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة وإشعال الحرائق وترويع المواطنين». وطلب من الوزراء «إعادة ترتيب أولويات الدولة على نحو يعي المطالب المشروعة لأبناء الشعب ويصحح الاعتبارات التي دعت لمطالبة الحكومة السابقة لتقديم استقالتها». وعبر مبارك عن ثقته ب «قدرة مصر ومؤسساتها وشعبها على تخطي الظرف الدقيق الراهن»، طالباً «تحقيق مطالب الشعب على نحو عاجل وجاد وأمين ليجتاز الوطن الظرف الراهن». وكلف الحكومة ضرورة «الإسراع في استعادة الأمن والهدوء والاستقرار بما يطمئن أبناء الشعب على أرواحهم وأعراضهم وممتلكاتهم مع تولي أجهزة الأمن مسؤولياتها كافة بما يتيح رفع حظر التجول وعودة رجال قواتنا المسلحة إلى ثكناتهم بعد أن يكونوا أتموا مهماتهم في الحفاظ على الدستور والشرعية ولكي يتفرغوا لمسؤولياتهم الأولى في الدفاع عن ارض مصر وسيادتها». كما كلفها «بإزالة ما لحق بمرافقنا من أضرار وخسائر واستعادة الثقة باقتصادنا، وتنفيذ سياسات اقتصادية جديدة تولي أقصى العناية بأن يأتي الأداء الاقتصادي مراعياً كل الرعاية لمعاناة المواطنين متوخياً تخفيف ما يتحملونه من أعباء ومحققاً التوازن المطلوب بين الأجور والأسعار ومع الأخذ في كامل الاعتبار للأولوية الرئيسية لمحاصرة البطالة وإتاحة فرص العمل». وشدد على ضرورة التصدي بكل الحسم «لمظاهر الفساد بمختلف صوره وأشكاله أياً كان مرتكبوه» وضرورة «المضي على نحو كامل وعاجل وفعال في خطوات جديدة ومتواصلة لمزيد من الإصلاح السياسي دستورياً وتشريعياً من خلال حوار موسع مع الأحزاب كافة تدفع مسيرة العمل الديموقراطي وتحقق مشاركة أوسع للأحزاب في الحياة السياسية وصولاً إلى المجتمع الديموقراطي الحر الذي يتطلع إليه أبناء الشعب». وفيما كان الرئيس مجتمعاً بالحكومة الجديدة بكامل تشكيلها عدا وزير الدفاع المنشغل بحال الشارع، كانت الآلاف تتدفق من كل صوب في اتجاه ميدان التحرير لمواصلة التظاهر استعداداً لتظاهرة مليونية اليوم للمطالبة بإسقاط النظام. أسر كاملة، أب وأم والأطفال، نقلوا إعاشتهم إلى الميدان، في ظل لا مبالاة بالتشكيل الحكومي الجديد. ويخشى مراقبون من أن الحال الأمنية تتجه إلى مزيد من الانفلات رغم انتشار وحدات من الشرطة (ترتدي زي الشرطة وخوذ الجيش بتنسيق مع القوات المسلحة) احتكت بها الجماهير وتناقشت معها في أسباب انسحابها يوم «جمعة الغضب». وجاء ذلك في ظل أنباء تتواتر عن إيقاف آلاف السجناء الفارين من سجون مختلفة وضبط مئات من الخارجين عن القانون وإدلائهم باعترافات مثيرة عن عمليات السلب والنهب وتحذيرات من اعتداء «لجان شعبية» وهمية على المارة، فيما المؤسسات العامة من بنوك ومحاكم ونيابات لا تزال متوقفة عن العمل وسط تطمينات بتوافر مخزون من الغذاء للمواطنين. وبدا أن قوى المعارضة بدأت تنقسم على نفسها، إذ تباينت ردود الفعل من جانبها بعد إعلان المدير العام السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية الدكتور محمد البرادعي أن قوى المعارضة فوضته لتشكيل حكومة وحدة وطنية بين الرفض والتوافق، فبينما أعلنت الجمعية الوطنية للتغيير وجماعة الإخوان المسلمين وعدد من الحركات الاحتجاجية في مقدمها «كفاية» وشباب «6 أبريل» دعمها البرادعي، بدا موقف بقية الأحزاب غامضاً. فرغم مساندة رئيس حزب الكرامة (تحت التأسيس) حمدين صباحي تطلعات البرادعي في بادئ الأمر، خرج أول من أمس ليعلن أن المعارضة لم تفوض البرادعي. في حين ظهر رئيس حزب الجبهة الديموقراطي أسامة الغزالي والمنضوي اسفل الجمعية الوطنية للتغيير بجوار البرادعي خلال مشاركة الأخير في تظاهرة ميدان التحرير أول من امس، كما نفى حزب الوفد تفويض البرادعي، وهو الاتجاه نفسه الذي اتخذه حزب التجمع اليساري المعارض ولكن بشكل أكثر حدة، إذ اعتبر الحزب ضمناً أن «البرادعي يسهم في تردي الأوضاع وإرباكها»، موضحاً أن الدكتور أسامة الغزالي حرب دخل إلى اجتماع للأحزاب والقوى والشخصيات السياسية عقد ظهر الأحد طالباً تفويض الدكتور البرادعي فرفض الحاضرون بالإجماع.