لم يخطر في بال أحد على الإطلاق حتى السياسيين المختصين وحتى قبل ساعات من مغادرة الرئيس زين العابدين بن علي بلاده، أن النظام الذي حكم تونس على مدى خمسين سنة بالجبروت والقمع والارتماء الكامل في أحضان الغرب والذي اشتهر بقبضته الأمنية الحديد، سينهار في لحظات خاطفة من الزمن ويتحول الرئيس الذي كان يخطط للحكم مدى الحياة إلى لاجئ ويصبح كمن خرّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح. إن ما جرى في تونس لا يمكن أن يوصف إلا بأنه زلزال سياسي ضخم ستكون له عواقب وارتدادات في أماكن كثيرة لا يعلمها إلا الله. وغني عن القول: إن في الوقت الذي يشكل فيه هذا الزلزال نقطة تحول مهمة وخطيرة في تاريخ العرب الحديث، فإنه في حقيقة الأمر رسالة إلهية وموعظة تقدم عبراً عظيمة يجب ألا يتم تجاوزها من دون تدبر، سواء من الحكام أو المحكومين، بل إن من أوجب الواجبات أن تعكف مراكز البحث والهيئات المختصة والعلماء والمفكرون على دراستها وتحليلها حماية لمستقبل الأمة وصوناً لأجيالها المقبلة. أول درس من دروس الزلزال التونسي هو وجوب إدراك السّنّة الإلهية الكبرى المتمثلة في أن أعظم داء يصيب الأمم وينذر بزوالها داء الظلم والطغيان. وهو داء شنيع يحوي الخساسات كلها، ويكفي للتدليل على شناعته وقبحه وخسته أن الله عزّ وجل وصف أسوأ عمل يقوم الإنسان به، وهو الشرك بالله، وصفه بالظلم حيث قال على لسان لقمان عليه السلام: «يا بنيّ لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم». فهو السبب الأعظم لزوال الدول مهما تجبرت وتعاظمت قوتها بل هو السبب الأعظم لزوال الأمم وليس الدول فقط، وصدق الله العظيم القائل: «ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لمّا ظلموا»، وصدق الله عز وجل القائل أيضاً: «وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعداً». وإن من أوجب الواجبات على علماء الأمة ومفكريها وقياداتها السياسية والاجتماعية محاربة الظلم بكل أصنافه وعلى جميع المستويات قبل حلول موجبات هذه السنّة الإلهية التي لا تخلف موعداً. والدرس الثاني من دروس الزلزال التونسي هو التيقن من أن «الفساد» بكل صنوفه وتجلياته داء دويّ آخر ينخر في كيان أي مجتمع ويمهد لسقوط أي نظام مهما قوي وتجبّر. فهو الذي محا عاداً وثمود وآل فرعون من الوجود، وهو فأرة سبأ ودودة الأرض لكل مجتمع وكل كيان. إنه من أعظم ما يكره الله عزّ وجلّ ويمقت، وكيف لا وهو القائل: «ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين»، وهو القائل أيضاً: «والله لا يحب الفساد»، وهو من أعظم ما يحول بين المجتمع والثقة بحكامه بعد أن يدمر قيمهم وأخلاقهم. إنه النتيجة الحتمية والقرين الملازم للطغيان، وصدق الله العظيم حين قال: «ألم تر كيف فعل ربك بعاد، إرم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد، وفرعون ذي الأوتاد، الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، فصب عليهم ربك سوط عذاب، إن ربك لبالمرصاد». وما أحرانا والفساد ينخر، وللأسف الشديد، في جسد كل مجتمعاتنا ودولنا العربية والإسلامية أن نعي الدرس قبل فوات الأوان، وأن نوحّد إراداتنا شعوباً ودولاً لمحاربة هذا السرطان الخبيث ونعمل على اجتثاثه من جذوره وإحراق كل مستنقع يترعرع فيه. والدروس الثالث هو أن أغبى الحكام وأكثرهم جهلاً الحاكم الذي يركن إلى عدد قليل من الأعوان يمنحهم الثقة المطلقة الخالية من أي مراقبة ومحاسبة فيطلق أيديهم ليفعلوا ما يشاؤون باسمه وبقوة سلطانه، متيحاً لهم بذلك أن يحولوا بينه وبين كل صرخة مظلوم أو دعوة إصلاح، بل وأن يعزلوه عن الواقع عزلاً تاماً فلا يعود يراه إلا من خلالهم. وها هو الدرس التونسي يقول إن على كل حاكم مهما كان مستوى ثقته بأعوانه ومسانديه، وإن كانوا من خاصة أهله، ألا يغفل عن مراقبتهم وأن يتخذ من الإجراءات ما يكفل معرفته بحقيقة ما يقومون به، ويكفل تواصله التام مع مجتمعه وهيئاته ومنظماته الفاعلة فيه. وما أحرى كل حاكم من حكامنا أن يبدأ بسؤال المحيطين به عن حجم ثرواتهم وأن يشكل لجاناً مستقلة للتحقيق في مصادر تلك الثروات، قبل التحقيق في مدى نزاهتهم في شكل عام وفي مدى نظامية ممارساتهم الإدارية ومدى تحقيقها مصالحَ الدولة والمجتمع. وما أحرى العلماء والمفكرين والمصلحين والقادة الاجتماعيين في كل مجتمع أن يوحدوا صفوفهم لفضح الممارسات المنحرفة للدوائر المحيطة بالحكام وأن يعرّوا الفاسدين منهم بكل الوسائل وعلى جميع الأصعدة. والدرس الرابع هو أن الركون إلى الإجراءات الأمنية والبوليسية لتثبيت دعائم أي حكم إنما هو اعتماد على بيت من بيوت العنكبوت. ولئن كانت الاحتياطات الأمنية المشروعة والمعقولة ضرورية لكل نظام وفي كل مجتمع، فإن ما يحقق الاستقرار ويثبت الأمن للدول وفي المجتمعات إنما هو العدل والشورى والديموقراطية الأصيلة وحكم النظم والمؤسسات لا حكم الأفراد والأهواء والشهوات. وإن الدساتير المعبرة عن إرادات الشعوب والمنطلقة من مصالحها، والمؤسسات الدستورية القائمة على أساس الشورى والديموقراطية، والنظم الرقابية، والمؤسسات والهيئات المجتمعية المستقلة والفاعلة هي التي تحفظ المجتمعات بعد الله في أوقات المحن والأزمات وتقي من التزعزع والانفلات والفوضى. والدرس الخامس هو أن الاستبداد وسلب الحريات وتكميم الأفواه مهما حققت كلها أو بعضها من مكتسبات وقتية للطغاة والنظم الاستبدادية، فإنها في حقيقة الأمر ليست إلا معاول هدم تحفر قبور الطغاة والمستبدين وتعجل زوالهم، وهي وإن أدت إلى حجب الحقيقة عن الظهور لأوقات تقصر أو تطول، فإنها تمهّد للتغيير وتهيئ المناخ للثورة والانفجار. وغني عن القول: إن الحرية من أعظم الحقوق الإنسانية وإن الاعتداء عليها اعتداء على الكرامة الإنسانية كلها، ولا يمكن أن يتحقق استقرار ولا تطور حقيقي بل ولا عدلٌ في أي مجتمع حرياته منقوصة أو مغيبة. وإن من أعظم الخزي والعار أن أمة الإسلام التي حمّلها الله عزّ وجلّ مسؤولية تحرير الإنسانية ورفع الأغلال عنها هي من أكثر الأمم الآن كبتاً للحريات وتكميماً للأفواه وتغييباً للرأي المخالف. والدرس السادس هو أن احتكار الثروات من فئات محدودة من المجتمع وحرمان قطاعات كبيرة من الشعب من الحدود الدنيا من حقوقها المشروعة في العيش الكريم، هو وقود للثورات وتربة خصبة لاستنبات الأحقاد والضغائن، وتيهئة لانهيار أي نظام وأي مجتمع، ورضي الله عن الفاروق القائل: «لو كان الفقر رجلاً لقتلته». والدرس السابع هو أن الاعتماد على القوى الخارجية والركون إليها لحماية أي نظام حماقة من أكبر الحماقات، فعالم اليوم لا تحكمه إلا المصالح ولا شيء سواها، فهاهي فرنسا التي صنعت النظام التونسي ورعته على مدى خمسين سنةً تبرأت منه في غمضة عين عندما تعارضت مصالحها معه كما تبرأ الغرب كله منه كما تبرأ من آخرين أمثاله. إن الحماية الحقيقية لأي نظام يجب أن تنبع من الشعب قبل أي شيء آخر، ولا يكون ذلك إلا عندما يرى الشعب ويشعر أن إرادته متوحدة مع النظام الذي يحكمه وأنه شريك حقيقي في قراراته، وعندما يتيقن بالأفعال أن النظام يرعى مصالحه ويسعى لتحقيق آماله وتطلعاته ويقيم العدل فيه. والدرس الثامن للزلزال التونسي وللزلازل الشبيهة التي سبقته هو أن خنوع المجتمعات ورضوخها للطغيان والفساد، وتقاعس قيادات المجتمع من العلماء والمفكرين والكتاب والمثقفين عن القيام بواجبهم في مواجهة الظلم وتعرية الفاسدين، يمكّن الظلم والفساد ويطيل بقاءهما ويؤدي في النهاية إلى أن يكون ثمن الخلاص منهما باهظاً على جميع المستويات. إن الحكمة والذكاء ليسا في القدرة على الخروج من المشكلات والمآزق عند الوقوع فيها وإنما في تفادي الوقوع فيها ابتداءً، وإن العاقل من اتعظ بغيره، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. * عضو مجلس الشورى السعودي سابقاً، ورئيس «منظمة العدالة الدولية»