وقعت كل من الولاياتالمتحدة الأميركية وجمهورية روسيا الاتحادية معاهدة «ستارت 2» في براغ من العام الماضي للحد من الأسلحة النووية في كل من البلدين، في إشارة إلى استئناف المفاوضات بينهما حول الحد من الانتشار النووي الهجومي، وبهدف الوصول إلى حد الإلغاء النهائي لهذا النوع من الأسلحة المدمرة، وهو ما يمكن أن يكون مستحيلاً في المستقبل القريب، حتى وإن بادرت إدارة أوباما إلى إرسال إشارات سياسية في ذلك الاتجاه. لقد بدأ السباق النووي بين البلدين في أواخر الأربعينات، وبعد ظهور هذا السلاح الفتاك بعد استخدامه ضد اليابان من الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، ومنذ تلك اللحظة بدأت الدول الكبرى على الساحة الدولية في ذلك الحين، وبسبب صراعاتها الأيديولوجية واختلاف المصالح الجيوسياسية، سباقاً محموماً لامتلاك هذا السلاح كرادع للطرف الآخر ومنع كل منهما الآخر بالتفرد والسيطرة على العالم، ولذلك تطورت صناعته ووسائل نقله وكذلك قوته التدميرية بشكل هائل، ما يوحي أنه في حال حدوث مواجهة بين الطرفين – الولاياتالمتحدة الأميركية وروسيا الاتحادية، وريثة الاتحاد السوفياتي- سوف تكون آثارها تدمير العالم بأكمله، ناهيك ما قد يحل للدولتين طرفي المواجهة، وهو ما جعل الدولتين تقيمان خطاً هاتفياً ساخناً بينهما سُمي بالخط الأحمر بعد الأزمة الكوبية الشهيرة في 8 تشرين الأول (أكتوبر ) عام 1962، التي كادت تكون أول حرب نووية بين البلدين لولا التوصل إلى اتفاق بينهما نزع فتيل الأزمة. لقد تم التوقيع على معاهدة «ستارت1» بين رئيس الولاياتالمتحدة الأميركية رونالد ريغان ورئيس ما كان يُسمى بالاتحاد السوفياتي ميخائيل جورباتشوف في 31 تموز (يوليو) 1991، لمدة 15 عاماً، وذلك قبل خمسة أشهر من انهيار الاتحاد السوفياتي في 19 آب (أغسطس) 1991، على تخفيض والحد من الأسلحة الهجومية الإستراتيجية، وتأخر تطبيقها والتصديق عليها بسبب انهيار الاتحاد السوفياتي، بانتظار أن يتم تطبيق أحكام المعاهدة على الدول المستقلة حديثاً من ذلك الاتحاد وهي: روسيا، وبيلاروسيا، وكازاخستان، وأوكرانيا، حيث اتفقت الدول الثلاث الأخيرة على نقل أسلحتها النووية إلى روسيا للتخلص منها، ودخل ذلك الاتفاق حيز التنفيذ في 5 كانون الأول (ديسمبر) 199، وينتهي مفعولها في 5 ديسمبر عام 2009، وتتضمن موافقة الدولتين على تقليص أسلحتهما على مدى سبع سنوات حتى 6000 قطعة نووية، والحاملات الإستراتيجية (الصواريخ الأرضية والبحرية وقاذفات القنابل الإستراتيجية) حتى 1600 قطعة لكل من الجانبين. عملية خفض الأسلحة الإستراتيجية الهجومية بين الولاياتالمتحدة الأميركية وروسيا بدأت في عام 1991 بتوقيع معاهدة ستارت 1، ومن ثم تلت ذلك معاهدة ما يسميها البعض ب «ستارت 2» الموقعة في عام 1993 التي لم تكتسب القوة القانونية اللازمة لتنفيذها، حيث وقع البلدان في عام 2002 اتفاقاً للحد من القدرات الإستراتيجية الهجومية، حددت عدد الرؤوس النووية الموضوعة قيد المناوبة ب 1700 إلى 2200 رأس لكل طرف، وبعدها أتت معاهدة «ستارت» الجديدة التي تم توقيعها في العاصمة التشيخية في 8 ابريل (نيسان) عام 2010 بين الرئيسين باراك أوباما وديمتري ميدفيديف، لتحل محل معاهدة «ستارت 1»، واتفاق الحد من القدرات الإستراتيجية الهجومية الموقعة عام 2002. ما يتعلق بالاستفادة من هذا الاتفاق، والمقارنة بين البلدين، فأعتقد أن الجهتين مستفيدتين من بنود الاتفاق في الوقت الحاضر، حيث أنهما بحاجة لمثل هذا الاتفاق لتعزيز العلاقات بينهما في العديد من المجالات السياسية والإستراتيجية، وهو ما رأيناه من دعم روسي لقرارات مجلس الأمن الدولي في ما يخص العقوبات المفروضة على إيران، و ما اعتبره العديد من المراقبين بأنه انقلاب في السياسة الروسية، وصفقة بين البلدين حول هذا الملف، وكذلك الدعم الروسي الحيوي للوجود الغربي في أفغانستان، من خلال السماح للدعم اللوجستي بالعبور في الأراضي الروسية، والدول الأخرى التي كانت جزءاً من الفضاء السوفياتي السابق، ما أعطى مؤشراً للمراقبين بأن هذه بداية ثمار اتفاق ستارت الجديدة. أما بالنسبة لما أثاره عدد من المسؤولين الأميركيين، سواء في الحكومة أو مجلس الشيوخ، من تساؤلات حول تفوق روسيا في الأسلحة التكتيكية النووية، ومسألة تأثيرها على توقيع اتفاق ستارت الجديدة، فيعتقد العديد من المحللين أن المسؤولين الروس سوف يستخدمون موضوع الأسلحة التكتيكية الروسية كورقة ضغط في مواجهة مشاريع الدرع الصاروخية الأميركية ونشرها في أوروبا وعلى مقربة من الحدود الروسية، حيث إن اتفاق «ستارت 2» لم يتطرق لمسألة الدرع الصاروخية في أي من بنودها، ولذلك لم يكن مستغرباً من الروس عدم التركيز والضغط على مسألة الدرع الصاروخية في الاتفاق، وهو ما هدد به الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف بأنه إذا لم تحل مسألة نشر الدرع الصاروخية فإن روسيا سوف تنشر أسلحة تكتيكية نووية كصواريخ SS26 على الحدود مع أوروبا. أعتقد أن القيادتين الأميركية والروسية بحاجة لمثل هذا الاتفاق في هذا الوقت بالذات، حيث يواجه الرئيس أوباما انتكاسة لمشاريعه السياسية في الشرق الأوسط، وعلى رأسها اتفاق سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وكذلك المستنقع الأفغاني، والوضع السياسي في العراق، ما يجعل إنجاز هذا الاتفاق حيوياً ومهماً أمام الرأي العام الأميركي، خصوصاً بعد الانتخابات التشريعية قبل شهرين ونكسة الديموقراطيين فيها. أما بالنسبة للقيادة الروسية، فهي أيضاً تريد أن تحقق شيئاً مهماً على المستوى الاستراتيجي، بعد البرود الذي أصاب علاقاتها مع الإدارة الأميركية خلال فترة الرئيس بوش الابن الأخيرة، وانسحابه من معاهدة الدرع الصاروخية عام 2001 من جانب واحد قبل انتهاء مفعولها بستة أشهر والموقعة عام 1972، لتظهر لدول الفضاء السوفياتي السابقة التي تطمح إلى الانضمام لحلف الناتو، مدى قوتها ونفوذها وتفاهمها مع الولاياتالمتحدة، ومن الممكن أن تكون مسألة انضمام هذه الدول هي من بنود التفاهم الروسي الأميركي، خصوصاً بعد التغير السياسي الذي حصل في أوكرانيا، وكذلك الهزيمة التي منيت بها جورجيا في حرب 2008، التي شجعتها الإدارة الأميركية السابقة على خوضها، التي كان من نتائجها إعلان استقلال جمهوريتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، واعتراف روسيا الاتحادية بهما. والسؤال المطروح هو: هل هذا الاتفاق يرسم معالم لطريق جديد في العلاقات بين البلدين؟ أم أنها مجرد حلقة من حلقات المصالح المشتركة بينهما. * أكاديمي سعودي.