لا تجر وراء الخيال، بل اهجره كثيراً. فكّر كأنك جالس أمام شاشة مكرّسة للعلوم ك «ديسكوفري» Discovery Channel. ترى مشهديات آسرة عن الكون الهائل وتراكيبه العجائبيّة التي لا يكف علماء «الوكالة الوطنيّة (الأميركيّة) للفضاء والطيران» (اختصاراً «ناسا») عن القول أنها لا تفسر، بالأحرى أنّ المستوى الحاضر للعلوم لا يستطيع تفسيرها. مثلاً، هناك ثقب أسود ضخم في قلب مجرّتنا «درب التبانة»، لكنه لم يبتلع المجرة لحد الآن. لماذا؟ ليس الرد مؤكّداً ولا معروفاً. في مجرة أخرى، ثمة ثقبان أسودان ضخمان يؤثّران على كل الفضاء المحيط بهما، بما فيه الأجرام والكواكب والنجوم والنيازك وغيرها. في ظل ما يعرفه علماء «ناسا»، المسافة التي تفصلهما لا تعطي تفسيراً لعدم تصادمهما. لماذا حتى الآن لم يتصادما؟ تهز وجوه مكللة بالأبيض لعلماء الفضاء في «ناسا» رؤوسها، معلنة بكل تواضع أن ما تملكه من علم لا يفسر عدم حدوث ذلك التصادم الكارثي. إذاً، فلتعد إلى مقعدك أمام شاشة «ديسكوفري» و «ناشيونال جيوغرافيك» و «عالم الحيوان» وغيرها. ولعلك تفضّل أن تطالع المواقع الشبكيّة العلمية الموثوقة على شاشة الكومبيوتر. نادراً ما تشاهد برنامجاً ينطلق من السؤال التالي: هل ظاهرة الحياة على الأرض (بمعنى وجود تلك الفيوض من الكائنات الحيّة عليها) هي أمر منطقي علميّاً؟ بقول آخر: إذا ابتدأ أمر الكون بال «بيغ- بانغ» Big- Bang، هل تظهر كائنات حيّة كنتيجة منطقيّة علمية عنه؟ في ظل نظرية ال «بيغ- بانغ»، يبدو منطقيّاً ظهور الذرّات والطاقة ومضاداتهما، مع كل ما ينتج منهما من تراكيب كالنجوم والكواكب والنيازك، بل حتى الثقوب السود. حيّ؟ إنّه «شيء» غير متوقّع أبداً ماذا عن ظهور حياة، خصوصاً حياة تمتلك ذكاءً كالبشر، بعد حدث لا حياة فيه، بل إن الأساس فيه هو كميّات هائلة من الطاقة؟ ربما لا تكون الإجابة بديهيّة تماماً. لنلجأ إلى التشبيه التصويري. إذا وقفت على سفح جبل ضخم أصم من البازلت البركاني الصلد. ليس في باطنه سوى صخور فائقة القسوة. تخيّل أنك رأيت الجبل الصلد يهتز، وأحسّست بالأرض ترتج تحت قدميك، بل تميد. صرت بالكاد قادراً على أن تسند نفسك، ربما بالاتكاء إلى جذع شجرة لتراقب المشهد، لكن الشجرة نفسها تهتز وتترنح. ثم يهدأ الجبل رويداً ورويداً. ومن صدعٍ صغيرٍ فيه، يخرج فأر. أليست معجزة؟ من أين جاءت كل تلك الكتلة البيولوجيّة وتراكيبها الهائلة التعقيد (وذكائها أيضاً)، إذا كان منطلقها هو الصخر البازلت الصلد الذي لا حياة فيه على الإطلاق؟ حتى وفق مسار نظرية «الانفجار الكبير»، وأيضاً مع افتراض أن العلم بات يعرف كل شيء بدقّة عن تاريخ تشكّل الكون (هو افتراض لا يصح علميّاً، أقلّه لأن العلم لا يدّعي ذلك)، لا شيء يوحي بالمعضلة الكبرى التي لا يجد العلم لها حلاً مناسباً لها لحد الآن، وهي ظهور كائنات بيولوجيّة حيّة. بعبارة أخرى، تمثّل ظاهرة الحياة السؤال الأشد غموضاً في المتاهة اللامتناهيّة لتاريخ الكون والإنسان. بقول آخر، حتى لو جرى التسليم بمكوّنات النظرية العلمية الأكثر شيوعاً حاضراً، لا شيء في ذلك ليعين على فهم أن يؤدي ذلك المسار إلى وجود أشياء بيولوجية حيّة، سواء أكانت فيروساً أم فأراً! ليس من المستبعد أن تبدو الكلمات السابقة كأنها تحاول الدخول إلى نقاش فلسفي أو ديني أو ثقافي حول موضوع الحياة كظاهرة كونيّة. في المقابل، مع قدر كبير من التحفّظ أيضاً، يصعب عدم التشديد على أن الأسئلة الكبيرة عن الحياة وظهورها في سياق النظريات العلميّة حاضراً، هي تلك التي تركّز على «كيف» و «عبر أي مسار» و «ما هي الطريقة أو الطُرُق»، وليس على الأسئلة العويصة فلسفياً مثل «من» و «لماذا» وغيرها. بالاختصار، إذا قُدّر لقارئ أن يعيش تجربة مذهلة كأن يشهد جبلاً يرتج ويتمخض عن فأر، فليفرح. الأرجح أن ما شاهده أقرب إلى المعجزة. وإذا رُميتَ من أحد بأن كلامك أو أفعالك هي أقرب إلى ولادة فأر من جبل، فبإمكانك العودة إليه لتشكره على هذا الفخر الذي أسبغه عليك!