يجتاج فيلم «الحسناء والوحش» (بطولة: إيما واطسون، إخراج: بيل كوندون) الشاشات عالميّاً. ليست المرّة الأولى التي ترسم مصانع الخيال في هوليوود شريطاً سينمائيّاً عن الرواية الخرافيّة التي خطّتها الروائية الفرنسيّة جاين- ماري لوبرنس دو بومونت في القرن الثامن عشر. لكنها المرّة الأولى التي يؤدّي فيها ممثلون بشر مباشرة أدوار الكائنات الخرافيّة في الفيلم، بالاستعانة بتقنيّات الكومبيوتر. وفي القصة بُعد إنساني هائل، إذ تتدفّق قصة حب مرهف بين قلبي الوحش والحسناء الشابة التي يأخذها رهينة في قصره المرعب، قبل أن تكتشف أن خلف المظهر العدائي والوحشي لمالك القصر، هناك قلب إنساني مفعم بالأمل، على رغم قسوة السحر الذي حوّله وحشاً! الأرجح أن كثيرين في المغرب راودهم خيال «الحسناء والوحش»، عندما تابعوا ما فعلته العالِمَة المغربيّة حسناء الشناوي بأحد أشد الوحوش قسوة على مرّ تاريخ الكرة الأرضيّة: الديناصور. وقبل عشرات ملايين السنين، كان ذلك الوحش منتشراً في أرجاء الكوكب الأزرق، ثم انقرض. وما زال تراب الصحراء المغربيّة يستضيف هياكل عظميّة عن وجود ذلك الوحش المرعب قلباً وقالباً. ويسيل لعاب عصابات دوليّة للحصول على تلك العظام التي تعتبر ثروة علميّة لا تقدّر بثمن، إذ تخبر عن أحوال الكائنات الحيّة والبيئة التي عايشتها في أزمان غابرة. وفي المزادات العلنيّة والأسواق السوداء الدوليّة، تدفع ملايين الدولارات في مقابل الحصول على الهياكل العظميّة للديناصور. وفي مسار يعبّر عن الإصرار والحرص على الثروة العلميّة للمغرب، تعمل الشناوي بلا كلل على ملاحقة هياكل الديناصورات المستخرجة من تراب بلادها، مركّزة على حمايتها من أيدي المافيات الدوليّة. وفي مشهديّة ربما تصلح جزءاً من فيلم هوليوودي، لاحقت الشناوي وحشاً، كأنها مغرمة تلاحق حبيباً. لم يكن «الوحش- الحبيب» سوى ديناصور من نوع «زرافاصورا» Zarafasaura. ويتكوّن الاسم من اجتماع اسميّ الزرافة في إشارة إلى عنقه الطويل المميّز، والاسم العلمي لفصيلة السحالي التي تنتمي إليها الديناصورات. وفي تفصيل آخر، يضع العلماء «زرافاصورا» ضمن عائلة ديناصورات «بليزيوسورس» plesiosaurus البحرية التي عاشت في العصور الجليديّة والطباشيريّة، قبل أن تنقرض. لاحقت «حسناء الديناصورات» كما يحلو لبعض المغاربة أن يسمّيها، «زرافاصورا» بدأب لإعادته إلى موطنه. وفي التفاصيل، أنّه اكتُشِف أصلاً في أحد أحواض الفوسفات في منطقة بوسط المغرب، ثم هرّبت عظامه إلى فرنسا للعرض في دار باريسية معروفة للمزاد العلني بسعر يقارب 450 ألف يورو. ولأن الشيء بالشيء يذكر، كان لتلك الدار عينها قصّة مع الشناوي، تتصّل أيضاً بالديناصورات. ففي أواخر العام 2010، عرضت الدار نفسها هيكلاً عظمياً لديناصور مستخرج من الصحراء المغربيّة. وتصدّت الشناوي للأمر عبر جمعيتها المختصة بحماية التراث الجيولوجي المغربي. وللأسف لم تكلّل مساعيها آنذاك بالنجاح الكامل، لأنّها توصّلت إلى منع بيع الهيكل العظمي في المزادات، لكنها لم تستطع إعادته إلى موطنه. ومع ذلك، يبدو أن تلك التجربة أكسبت الشناوي وجمعيتها خبرة كبيرة في جعل الديناصورات «قضية دولة». ففي حال «زرافاصورا»، استطاعت الحصول في مطلع آذار (مارس) الماضي على قرار قضائي فرنسي بمنع بيع هيكله العظمي مع إرجاعه إلى موطنه الأصلي. الجيولوجيا بوصفها تاريخاً على رغم أن الشناوي نجحت في خطف الأضواء في قضيّة «زارافوصورا»، إلاّ أنّها كانت تسبح خارج مياه اهتماماتها العلميّة العميقة. وعلميّاً، توضع مسألة الكائنات الحيّة وتاريخها وتطوّرها ضمن علم الإحاثة («باليونتولوجيا» Paleontology) الذي ظهر في القرن العشرين. ولا يمثّل ال «باليونتولوجيا» المساحة العلميّة للشناوي، بل إنّها تختص في تركيبة كوكب الأرض وتاريخه الجيولوجي. ويتقاطع ذلك مع ال «باليونتولوجيا» عندما يتعلّق الأمر بوجود هيكل لديناصور مثلاً من هياكل الديناصورات في باطن الأرض، أو الأحجار السماوية النفيسة التي تسقط من فضائها الخارجي. ومن الناحية الأكاديميّة، تختص الشناوي بعلم «كيمياء الجيولوجيا» («جيوكيمستري» Geochemistry) الذي يقارب التراكيب الجيولوجيّة عبر دراسة مكوّناتها الكيماويّة وتفاعلاتها ودلالتها. ويعتبر فرعاً حديثاً مشتقاً ممّا يعرَف ب «علوم كوكب الأرض»Earth Sciences. ونشأ في مطلع القرن العشرين. ويستخدم مبادئ الكيمياء للتعمّق فهم نظام الأرض وأنظمة الكواكب الأخرى في المجموعة الشمسيّة. وركّزت حسناء على دراسة النيازك التي يأتي معظمها من منطقة في الفضاء الخارجي تعرف باسم «حزام الكويكبات» بين مداري المريخ والمشتري. والمفارقة أن العلماء يعتقدون أنّ نيزكاً ضخماً انفلت من «الحزام»، وضرب الأرض بقوة تفوق قنابل ذريّة مجتمعة، ما أدّى إلى انقراض الديناصورات قبل 65 مليون سنة. وحصلت الشناوي على إجازة في علوم الأرض، ثم حصلت على دكتوراه في كيمياء الصخور المتعلّقة بالغازات النادرة (1992). ولم تخطفها عاصمة الأنوار، بل عادت إلى المغرب لتشتغل في التدريس الجامعي. ولم يمنعها مسارها الأكاديمي من الزواج وإنجاب 3 أبناء، على رغم أن الأسرة أبعدتها لفترة قصيرة عن التقدّم علميّاً. وفي العام 2000، قرّرت العودة إلى بحوث ما بعد الدكتوراه. واتّصلت بمدير المختبر الذي أشرف على رسالتها في الدكتوراه، وهو البروفسور ألبرت جامبون الخبير في النيازك. وتبيّن لها أن البحوث تتصاعد في جيوكيمياء النيازك التي يعرف علماء الفلك أنها تحتفظ بالتركيبة الأصيلة للمجموعة الشمسيّة. واستطراداً، يعتقد علميّاً أنّ النيازك تكوّنت في المجموعة الشمسيّة بالتزامن مع تشكّل كواكبها. وفي بعض الأحيان، يحتوي النيزك على بقايا متحجّرة من كائنات حيّة دقيقة، ما يجعله ثروة علميّة نادرة. لعل شيئاً لا يثير المخيّلات أكثر من صورة وصول تركيب بيولوجي في نيزك آتٍ من كوكب آخر. في تلك الحال، لا أقل من القول إنّه يقدّم دليلاً حاسماً على وجود حياة في ثنايا الفضاء الخارجي، غير تلك الموجودة على الأرض. وحدث أن حرّكت وكالة «ناسا» الأميركيّة تلك الخيالات في لحظة يصعب نسيانها في منتصف التسعينات من القرن العشرين. وآنذاك، أعلنت أن نيزكاً آتيّاً من المريخ يحمل في تراكيبه بقايا كائن حيّ ميكروسكوبي الحجم، وهو أمر نفته الوكالة لاحقاً. في تلك الأجواء، وجّه خبير النيازك الفرنسي جامبون طالبته المغربيّة للاهتمام بنيازك بلدها. وتدريجياً، عرفت الشناوي أن المغرب فيه كنوز فضائيّة كثيرة، بل يستقطب الخبراء والهواة والمغامرين وحتى المافيا، لجمع الشظايا النفيسة، خصوصاً من صحاريه الجنوبيّة. وفي 2010، صارت الشناوي أول امرأة عربية أفريقية مسلمة تنال عضوية «الجمعية العالمية للنيازك»Meteoritical Society لولايتين (في 2013 و2015) ضمن لجنة تسمية النيازك التي تضم 12 خبيراً دوليّاً. وتنهض الجمعية بأمر التدقيق العلمي في التصنيفات والأسماء للنيازك بهدف اعتمادها رسميّاً. وتأسسّت في 1933 وتضم ما يزيد عن ألف باحث يأتون من قرابة خمسين بلداً، وهم يسعون لتعميق المعرفة حول أصل المنظومة الشمسية وتاريخها. وعند التحاقها بالجمعية، نالت الشناوي دكتوراه الدولة في دراسة النيازك عام 2007 لتكون أول امرأة في العالمين العربي والإسلامي تحصل عليها. وبعد قرابة 3 سنوات، جدّدت الشناوي تألّقها علميّاً بنيلها «جائزة الأكاديمية الفرنسية لعلم النيازك». صحراء عربيّة في علوم الفضاء كافأت النيازك شغف العالِمة حسناء الشناوي بها، إذ منحتها في 2011، فرصة العمر بأن أُسُنِد إليها العمل على نيزك أتى من المريخ قبل نصف قرن. ويعتبر خامساً في التاريخ بعد أربعة مشابهة له عُثِر عليها في فرنسا (1811) والهند (1865) ومصر (1911) ونيجيريا (1962). وبديهي أن خبرة علميّة في النيازك تراكمت عبر تلك الفترة، ما وضع في يد الشناوي أدوات متقدّمة في تحليل التركيب الجيولوجي- الكيماوي للنيزك، وتالياً تركيبة الكوكب الأحمر ذاته. وبجهد من خبيرة النيازك الدولية، حمل ذلك النيزك النادر إسم القرية التي سقط فيها شرق البلاد. وصار «نيزك تيسنت» المغربي من أشهر نيازك المريخ لأن تحليله كشف أن الفترة التي تشكّل فيها تقابل فترة وجود مياه على سطح المريخ، وربما كائنات حيّة أيضاً، ما أعاد إلى الأذهان الصورة التي أثارتها وكالة «ناسا» في تسعينات القرن العشرين. ولم يكن نيزك تسينت أول قطعة مريخيّة حملت اسما مغربيّاً. وبحرصها على التاريخ الجيولوجي لبلادها، عملت الشناوي على تغيير أسماء نيازك مريخيّة عثر عليه في المغرب. وبدل أنّ تحمل اسماً غير محدّد مع رقم ما كأن يكون «نيزك شمال غرب أفريقيا + رقم»، صارت نيازك المغرب تحمل اسماً واضحاً يشير إلى مكان سقوطه تحديداً. حقّقت الشناوي مبتغاها بالتعاون مع فريق بحثها في «جامعة الحسن الثاني» في الدار البيضاء، وبالتعاون مع فرق بحث دولية. وظهرت أسماء «نيزك بن كرير» في 2004، و «نيزك تمضاخت» في 2008، و «نيزك الحكونية» الذي ظل غير محدد الأصل لفترة طويلة. وكذلك ساهمت الشناوي (مواليد 1964) في صنع مكانة علمية مرموقة للمغرب. ونظّمت «المؤتمر السنوي للهيئة العالمية لتسمية النيازك» في 2014. وعملت على إدراج دراسة النيازك في التدريس الجامعي المختص بالجيولوجيا للباحثين في «علوم الأرض» في المغرب. وتوّجت مساعيها مع آخرين، في 2016 بافتتاح أول متحف جامعي للنيازك على المستويات الوطنيّة والعربيّة والأفريقيّة في «جامعة بن زهر» في مدينة «أغادير» الأطلسيّة. ولا تتردّد الشناوي في الإعراب عن أملها بإنشاء متحف يحتضن هيكل الديناصور «زارافاصورا» العائد لموطنه، إضافة إلى هياكل لوحوش مماثلة أخرى.