مع التغيرات التي عصفت بالعالم منذ مطلع القرن التاسع عشر، ومع صعود الاستعمار وما رافقه من فتاوى للهجرة على اعتبار أنه لا يجوز للمسلمين العيش في «دار الحرب» وجد من بقي من المسلمين في أوطانهم صعوبات في التكّيف مع الواقع الجديد، خصوصاً مع إدارة منشآتهم الدينية والتعليمية التي كانت تموّلها الأوقاف الخاصة بها التي أصبحت الآن تحت سيطرة دولة غير مسلمة. كان هذا الواقع الجديد حاضراً بقوة في ولاية البوسنة والهرسك التي تعرضت للاحتلال النمسوي- المجري في 1878، الذي قاومه المسلمون بقوة إلى أن استسلموا أمام القوة العسكرية الكاسحة ومن ثم هاجر بعضهم استجابة إلى فتاوى بعض الشيوخ. أما من بقي فقد انتقل من مقاومة عسكرية إلى مقاومة أخرى لمطالبة السلطة الجديدة من تمكين المسلمين من أوقافهم وإدارة شؤونهم الدينية والتعليمية، ووافقت فيينا في 1883 على تشكيل مجلس يكون على رأسه «رئيس العلماء» (يختاره الإمبراطور من ثلاثة مرشحين منتخبين) ويتولى إدارة الشؤون الدينية والتعليمية للمسلمين بالاستناد إلى الأوقاف التي كانت لهم. وقد تكرّر هذا النموذج مع الاحتلال البريطاني لفلسطين في 1917، وتحول الحكم العسكري إلى مدني في 1920 وقام الحراك الشعبي الفلسطيني للمطالبة بأن تكون الأوقاف تحت سلطة المسلمين وليس سلطة الاحتلال/ الانتداب، حيث وافق المندوب السامي البريطاني هربرت صموئيل في 1921 على تشكيل مجلس للمسلمين يكون على رأسه «رئيس العلماء» ويضم أربعة أعضاء ويتولى الشؤون الدينية والتعليمية للمسلمين في فلسطين بتمويل من الأوقاف. ومع إجراء الانتخابات لرئاسة وعضوية هذا المجلس الجديد في مطلع 1922 فاز بلقب «رئيس العلماء» أو رئيس المجلس الجديد الحاج محمد أمين الحسيني، الذي بقي في منصبه هذا حتى 1937. ومع أن نظام المجلس الذي نشر في الجريدة الرسمية في نهاية 1921 لم يتعرض في المادة (4) لصلاحيات «رئيس العلماء» بل ترك ذلك لقانون يضعه المجلس نفسه، وحتى صدور هذا القانون في 1925 كانت صلاحيات «رئيس العلماء» محدودة، إلا أن الحسيني نجح في أن يجعل المجلس مصدراً لقوته الجديدة في فلسطين ومؤشراً للانقسام في النخبة والمجتمع إلى طرفين: «المجلسيون» أو المؤيدون للحسيني في سياسته وطموحاته، و «المعارضون» له في مختلف الأحزاب السياسية التي كانوا ينتمون إليها. في مناسبة الذكرى ال120 لولادة الحسيني (1897-1974) صدر كتاب مهم حول هذا الموضوع للباحثة د.عبلة المهتدي بعنوان «الحاج أمين الحسيني والتحديات الوطنية في فلسطين 1917-1937». ومع أن العنوان يوحي بغير ذلك إلا أن بروز الحسيني المفاجئ من معلم يلبس البدلة الإفرنجية في منصب «مفتي القدس» مع الجبة والعمامة في 1921، ثم بلقب «رئيس العلماء» أو «رئيس المجلس الإسلامي الأعلى» وهو في الخامسة والعشرين من عمره، جعل موضوع الأوقاف (استمد منها سلطته الجديدة) هو الموضوع المركزي في الكتاب الذي يحمل جديداً نظراً لأن المؤلفة اعتمدت فيه على وثائق المجلس بالإضافة إلى المصادر الأخرى. الباحثة الأردنية المقدسية الأصل تناولت هذا الموضوع في أبحاثها وكتبها السابقة خلال العقدين الأخيرين، خصوصاً في كتابيهما «القدس والحكم العسكري البريطاني» (بيروت 2003) و «أوقاف القدس في زمن الانتداب البريطاني» (عمان 2005). أما الجديد هنا فهو في اعتمادها على أرشيف المجلس الإسلامي الأعلى، الذي أصبح مسؤولاً عن الأوقاف في فلسطين منذ تأسيسه في 1922 وتابعت عمل رئيسه الحسيني إلى أن عزلته سلطات الانتداب في خريف 1937. ومع اعترافها في المقدمة بأن كتابها يأتي بعد كتب عدة تناولت الحسيني، بين من اعتبره «بطلاً من أبطال الزمان» وبين من «اتهمه بالاتجار بالقضية من أجل مكاسب شخصية»، فقد سعت د. المهتدي من خلال هذه المقاربة الجديدة إلى أن توضح العلاقة بين سلطة الانتداب والأوقاف والحسيني في سياق تاريخي محدد. بدأ الحسيني، الذي لم يتخرج من مدرسة دينية معتبرة واكتسب لقب «الحاج» في السادسة عشرة من عمره، عمله موظفاً في سلطة الانتداب الجديدة ثم معلماً خلال 1920-1921 إلى أن توفي شقيقه كامل الحسيني مفتي القدس فأصبح فجأة مرشح العائلة لهذا المنصب ضمن التنافس مع العائلات الكبيرة (النشاشيبي والخالدي وجار الله إلخ)، وحظي بدعم من سلطة الانتداب (بعد أن حصد أقل الأصوات) لكي يصبح مفتياً من دون أن يصدر قرار رسمي بذلك، وهو ما عزّز حظه لاختياره رئيساً للمجلس الإسلامي الأعلى الذي تشكل في 1922. ونظراً إلى أن المجلس الجديد أصبح يشرف على الأوقاف الكثيرة في فلسطين ويقوم بتعيين العاملين في المحاكم الشرعية والتعليم ويؤجّر الأصول الوقفية ويقدّم المساعدات للمحتاجين، فقد كان هذا يعني وجود الحسيني الشاب في مركز يعطيه الكثير من السلطة في المجتمع ضمن التنافس القوي بين العائلات الكبيرة الذي بقي يميز الحياة الاجتماعية والسياسية في فلسطين حتى نهاية الانتداب. في هذا السياق تتابع المؤلفة من خلال وثائق المجلس الإسلامي الأعلى سعي الحسيني إلى توسيع سلطته (سلطة المجلس) من خلال التوسع في التعليم سواء للأيتام أو للبنات وحتى التعليم العالي (الكلية الإسلامية في القدس)، حتى أن الإنفاق على التعليم أصبح في 1937 يأخذ 19 في المئة من موازنة المجلس. ومع هذا التوسع كان الحاج الحسيني يحرص على تعيين أنصاره أو المؤيدين له في الوظائف الجديدة أو في الوظائف التي تخلو. وبقيت العلاقة بين الحاج الحسيني وسلطة الانتداب مقبولة للطرفين حتى 1936. فقد كان المهم لسلطة الانتداب إرساء نوع من التوازن بين العائلات الكبيرة المتنافسة، ومن ناحية أخرى كان الحسيني واعياً إلى أن اختياره مفتياً للقدس في 1921 ثم رئيساً للمجلس الإسلامي الأعلى في 1922 يعطيه فرصة لتقوية نفوذه في فلسطين أولاً ثم في العالم العربي والإسلامي بعد أن اتخذ لقب «مفتي الديار المقدسة» أو «المفتي الأكبر»، ونجح في عقد المؤتمر الإسلامي في القدس عام 1931 الذي شاركت فيه شخصيات معروفة من البوسنة إلى الهند، وهو ما وفّر له مكانة سياسية أيضاً. ومما يدل على ذلك أن الشيخ عز الدين القسّام، الذي كان موظفاً تابعاً للمجلس الإسلامي الأعلى، أرسل في 1935 رسالة إلى الحاج الحسيني ليخبره عن عزمه على العمل المسلح، إلا أن الحسيني ردّ عليه «إن الوقت لم يحن بعد لمثل هذا العمل، وإن الجهود السياسية التي تبذل تكفي لحصول فلسطين على حقوقها». ولكن اندلاع الإضراب الكبير في ربيع 1936 فرض على «المجلسيين» و «المعارضة» أن يجتمعوا لاختيار قيادة واحدة للشعب الفلسطيني (اللجنة العربية العليا) بقيادة الحاج الحسيني الذي أصبح الآن يسير تحت ضغط الشارع وصولاً إلى بيان 30/8/1937 الذي أيد استمرار الإضراب على رغم تدخل حكام الدول العربية المجاورة. ومن هنا يمكن أن نفهم ما كتبه المندوب السامي البريطاني واكهوب إلى وزير المستعمرات في صيف 1937 عن الحاج الحسيني عشية عزله عن رئاسة المجلس، «عندما كنت أؤكد في السنوات السابقة أن المفتي على علاقة حسنة مع الحكومة، وعندما كنت أؤكد حتى زمن قريب على أهمية موقفه السلبي في عدم طرح الدعوة الدينية بمختلف الوسائل الممكنة لديه، كنت دائماً أقرّ بأنني لا يمكن أبداً أن أتكهّن بوجهة نظره في المستقبل تجاه الحكومة». ومع عزل المفتي بقرار 30/9/1937، وتعيين لجنة ثلاثية من المسلمين برئاسة بريطاني لإدارة الأوقاف، وحلّ «اللجنة العربية العليا» واعتقال أعضائها نجح الحاج الحسيني في التخفي والهرب إلى لبنان في تشرين الأول (أكتوبر) 1937، حيث بدأ من هناك مرحلة سياسية جديدة جعلته ضمن المحاور الإقليمية والدولية (الانحياز إلى دول المحور)، وبقي بعيداً من فلسطين حتى وفاته. كتاب د. المهتدي ضخم في حجمه (نحو 650 صفحة من القطع الكبير) ومتنوع في محتواه ومصادره، ولذلك يمكن قراءته من نواح مختلفة، ولكنه يقدم من دون شك رؤية جديدة عن الحاج الحسيني ضمن ما نُشر عنه حتى الآن، خصوصاً في ما يتعلق بإدارة الأوقاف الإسلامية في ظل سلطة الاحتلال/ الانتداب.