لن تتورع السلطة التي تخوض صراعها السياسي الدامي للاحتفاظ بالهيمنة، عن استخدام كل أسلحتها المشروعة وغير المشروعة، وحتى في حالة حصول حدث كانفصال إقليم أو أكثر عن البلد الأم – الأصل، كما جرى التعارف عليه منذ حقبة ما بعد الاستعمار. مثل هذه السلطة لا تعنيها النتائج والمآلات النهائية لما قد تتسبب هي فيه. فالرئيس السوداني الذي يواجه جنوب بلاده انسلاخه وانفصاله عن بقية البلاد، لم يجد غير وعد بالتشدد في تطبيق «الشريعة» الإسلامية، لما يتبقى من السودان تحت سلطته، وكأنه سيصبح أكثر تحرراً في فرض نمط من «حكم إسلاموي»، إذا ما أقر الجنوبيون في استفتائهم القادم الانفصال عن «السودان القديم»، وتنفيذ ذلك بالفعل. وهو لهذا رأى ويرى إلى حدث الانفصال، كونه لاغياً لحجة التعددية في الشمال. أي أنه يرى في الشمال كتلة واحدة، تتماثل في تجانسها وتماسكها على وهم «تطبيق الشريعة»، بينما يرى إلى الجنوب كتلة أخرى مضادة متماثلة، تتماسك وتتجانس على وهم الخروج من قبضة «الدولة الواحدة» التي لم تستطع أن تحترم التعددية فيها، فكانت النتيجة: الانفصال. ولئن لم تعد آليات الديموقراطية بمفاهيمها الغربية، هي الحل والترياق لإشكالات وهموم العديد من البلدان المتخلفة، بقدر ما اضحت تستدعي إغراقها في المزيد من الإشكالات والصراعات الناتجة من وضعية السلطة فيها، كعصاب لا دواء له، ولا أمل بالشفاء منه، فإن آليات الانتخاب التي يفترض أنها محايثة وملازمة للديموقراطية، لم تعد تشكل معايير للحلول والإشكالات، بقدر ما أمست جزءاً من العُصاب والمرض الذي لا شفاء منه، طالما أن بلاداًَ بأكملها تجرّ إلى «صراعات حافة الهاوية» برغبات سلطوية فردية أو «جماعية»، إيذاناً بالدخول إلى مرحلة من حروب أهلية دامية، يتمسّك فيها طرفي السلطة أو أطرافها، كلّ بشرعية يزعمها لنفسه. لقد أعلن إمبراطور جمهورية إفريقيا الوسطى (جان بيدل بوكاسا) يوماً نفسه رئيساً مدى الحياة، فلم تسعفه الحياة أن يبقى شاهداً على المدى الذي يمكن أن تبلغه «سلطة الأبد» التي سعى إلى حيازتها لنفسه. لكن في أيامنا هذه، هناك العديد من رؤساء وأنظمة وسلطات، وإن لم تعلنها مرة واحدة، فهي بالتقسيط التدرّجي، أرادت الرئاسة والسلطة لها، وللأبناء والأحفاد من بعدها. هكذا ابتدعت السلطات التوريثية بدع «الدساتير الجديدة» كما في عدد يزداد اضطراداً من بلدان «الجمهوريات» العربية وما يجاورها، وقد بزّتها سلطة النظام الحاكم في كوريا الشمالية، بتثبيت بدعة التوريث من كيم أيل سونغ إلى الإبن إلى الحفيد... ولا ندري إذا ما استمر المقام طويلاً بتلك السلطة، إلى أين يصل مرض التوريث، في هذا البلد، كنتاج لاستبداد آسيوي، أحد أبرز طبائعه هذا النمط من الاستبداد والاقطاع الآسيوي، المتمايز عن أنماط استبداد وإقطاعات قد تكون أشد وطأة، ولكن ما يخفف من أمراضها السارية والمُعدية، أنها لا تتم دفعة واحدة، ولكن يجري تقسيطها كل أربع أو ست أو سبع سنوات، حين يجري تذكيرنا بالتمديد أو التجديد للزعيم الأوحد؛ زعيم سلطة الأبد. لكن أبرز ما ابتليت به الأنظمة السياسية في الفضاء السوفياتي السابق، ذلك النمط الستاليني المكرّر، بل الأشد استبدادية وتشوّفاً وتطلعاً نحو «الألوهية السلطوية»، كما يجسدها (ابو الكازاخ) نور سلطان نازارباييف الذي ذهب به عُصاب السلطة بأمراضها، للطلب من علماء بلاده العثور على طريقة ما لسد الطريق أمام الموت (موته) كي يبقى يحكم في بلاده... إلى الأبد. وهو لهذا ولأكثر من مرة، خاطب العلماء بقوله: الناس في عمري هذا (70 سنة) يتعجّلون الحصول على عقاقير المستقبل، هذه (مرغوبة) في أقرب وقت ممكن، الآن إذا تكرمتم» مخاطباً طلاب جامعة العاصمة. وفي مرة أخرى (الثالثة خلال عام) خاطب نازارباييف لجنة علمية حكومية بقوله: «العقاقير المضادة للتقادم... التجديد الطبيعي... الحياة الأبدية... هذه هي الأشياء التي يبحث فيها الناس هذه الأيام، والدول التي تعثر عليها ستكون هي المتقدمة، وتلك التي ستخفق ستصبح المتخلفة». وفي مرة أخرى أعرب عن رغبته الاستمرار في الحكم حتى عام 2020، وما بعده، مخاطباً البرلمان، «فقط أعثروا لي على إكسير الحياة». هذا نموذج من حكام أنظمة سلطوية لا تخفي مرادها المرضي، تشبّثاً بالسلطة... وبالحياة إلى الأبد... ولا ندري أي أبد؟ وقد صدق من قال إن «السلطة مرض لا شفاء منه»، وهي كذلك بالفعل في بلادنا، وفي غيرها من بلاد «الأبوات العظام». * كاتب فلسطيني