إذا استثنينا مؤلفات جان - جاك روسو وربما مؤلفات فولتير أيضاً، يمكننا ملاحظة ان كتاب «روح الشرائع»، لمونتسكيو هو الأشهر بين الأعمال الفكرية التي مهّدت للثورة الفرنسية، وبالتالي بين أعمال ما يسمى بعصر الأنوار. وهو شهير لدى الذين لم يقرأوه بقدر ما هو شهير لدى الذين قرأوه، حاله في هذا حال «رأس مال» كارل ماركس، وربما معظم أعمال فرويد أيضاً. ولعل اللحظة الأولى التي شهدت بداية شعبية هذا الكتاب، الذي ما كان ينبغي له أن يكون شعبياً على أية حال، كانت تلك التي امتدح فيها مارا، أحد كبار رجالات الثورة الفرنسية وطغاتها الدمويين، الكتاب وصاحبه قائلاً ان مونتسكيو في «روح الشرائع» «احترم الآراء التي تؤمّن سلامة المجتمع، ولم يهاجم قط إلا الأحكام المسبقة الضارة. لكنه لكي يطهّر الأرض منها، لم يتخذ على الإطلاق نبرة المصلح الواثق من نفسه». والحق أنه كان غريباً، ومشجعاً، أن يقول مارا كلاماً مثل هذا الكلام عن كتاب كان كثيرون يرون أنه الصاعق الذي فجّر الثورة. مهما يكن من أمر، فإن مونتسكيو نفسه يحذرنا منذ مقدمة كتابه من أن الهدف الذي وضعه لنفسه «ليس توجيه النقد اللاذع للأنظمة القائمة لدى مختلف الأقوام، وإنما شرحها وتفسيرها» مؤكداً أن «على رغم التنوع الكبير في النظم والمؤسسات الاجتماعية، فإن ظهورها ليس عرضياً أو تعسفياً، لأن كل ما يتحرك في هذا العالم يخضع لقوانين ثابتة لا تتغير». فالقوانين هي في رأي مونتسكيو «العلاقات الحتمية المنبثقة من طبيعة الأمور». ومن الواضح ان هذا التأكيد الذي نجد ظله مخيماً على كل صفحة من صفحات «روح الشرائع» هو الذي جعل مؤرخي الفلسفة يصفون مونتسكيو بأنه واحد من مؤسسي الحتمية الجغرافية، هو الذي كان يقول ان السمات الأخلاقية للشعوب وطابع قوانينها وأشكال حكوماتها إنما يحددها المناخ والتربة ومساحة الإقليم. صحيح ان الماديين الفرنسيين انتقدوا هذه الآراء، لكن مونتسكيو ظل يعتبر من أكبر التنويريين بينهم. وهو نفسه كان على أية حال، يعتبر الملكية الدستورية أفضل أشكال الحكم، وكان يقف ضد الحكم المطلق معتبراً إياه مضاداً لكل ما يمتّ الى الإنسان والإنسانية بصلة من الصلات. وما «روح الشرائع» سوى تفسير لهذا في محاولته تفسير أصل الدولة وطبيعة القوانين، على غرار ما فعل ابن خلدون قبله بقرون، وبهدف وضع خطة للإصلاحات الاجتماعية على أساس يرى الى مسألة التوحيد بين المجتمع والطبيعة، على أنها قانون أساسي، ما يتناقض مع نظرية العناية الإلهية خالقة الدولة، التي كانت سائدة في القرون الوسطى. ومع هذا ليس «روح الشرائع» كتاباً متناسقاً ذا موضوع واحد، بل هو متن يضم مجموعة كبيرة من الأقوال والفقرات والحكم والأفكار، التي تبدو للقارئ مشتتة لا يجمع بينها جامع، حتى ولو انها تتميز جميعاً ببعد النظر ومعرفة افضل الطرق الى الوصول الى موضوعها. وبعض هذه الفقرات يمتد على صفحات، فيما لا يتعدى بعضها الآخر الجملة الواحدة. ويقول الباحث السوفياتي فولغين صاحب واحد من أشهر الكتب التقدمية عن «عصر الأنوار»، انه «يصعب على القارئ أحياناً إدراك الصلة التي تجمع بين فصل وآخر» مؤكداً أن المؤلف «ينسى نفسه أحياناً في سعيه لشرح أفكاره باللجوء الى الأمثلة ويشتّ كثيراً عن موضوعه». في شكل عام يتألف «روح الشرائع» من 31 قسماً أو كتاباً قسمت الى فقرات ومقاطع تشكل في ما بينها موسوعة لأفكار العصر، وبحوثاً ذات علاقة مباشرة بمسألة القوانين والشرائع، وعلاقة هذه ليست فقط بالحكومات وأنظمة الحكم بل كذلك بذهنيات المواطنين، وطبيعة الأرض والمناخ والتجارة وعدد السكان. في الكتاب الأول يحدد المؤلف الفارق بين قوانين الطبيعة والقوانين الإنسانية. وفي الفصلين التاليين يحدد هذه الأخيرة عبر رسم خريطة لأنظمة الحكم بأنواعها الثلاثة: الطغيان والسلطة الملكية والسلطة الجمهورية. وحتى الكتاب العاشر، يدخل مونتسكيو في تفاصيل القوانين والعقوبات والأحكام القضائية ولا سيما في «الأمم الحديثة». أما في الكتابين التاليين فإنه يعالج الشرائع التي تقوم عليها الحرية السياسية التي لا يمكن العثور عليها إلا لدى الحكومات المعتدلة. وهنا يعرّف مونتسكيو الحرية بأنها «حق الإنسان في ان يفعل كل ما تسمح له به الشرائع». والكتاب الثاني عشر تحديداً يعالج فيه المؤلف علاقة جباية الضرائب بالحرية. وفي الكتب التالية يعالج مونتسكيو ضرورة أن يأخذ المشرّع في الاعتبار الأحوال المناخية والجغرافية في شكل عام. وبعد ذلك يدرس المؤلف تأثير الأخلاق في القوانين، والتجارة، واستخدام النقود، والعلاقة بين زيادة عدد السكان والقوانين، ثم في الكتب الرابع والعشرين والخامس والعشرين والسادس والعشرين يصل الى البحث المفصّل في واحدة من اكثر المسائل التي يتناولها الكتاب تعقيداً: أي علاقة الدين بالدولة. أما الأجزاء الباقية ففيها دراسات وفصول وفقرات ذات علاقة بالقانون الروماني والقانون الفرنسي والقوانين الإقطاعية وما إلى ذلك. لقد رأى معظم الباحثين الذين درسوا روح الشرائع ان مونتسكيو يتوصل في نهاية الأمر الى وضع نظرية تسفر عن إلغاء السياسي لحساب القانون العادل، حيث ان السلطات السياسية الثلاث (التشريعية، التنفيذية والقضائية) موجودة لديه حقاً، لكنّ الذي يحكم في النهاية، انما هو القانون. وفي هذا الإطار اعتبر كتاب مونتسكيو، على الدوام، حديثاً وثورياً. صدر «روح الشرائع» في عام 1748 وكان مؤلفه في نحو الستين من عمره، والكتاب صدر من دون ان يحمل اسم المؤلف أو تاريخ الصدور. ومع هذا لاقى رواجاً ونجاحاً كبيرين، الى درجة أنه طبع اثنتين وعشرين طبعة خلال عام واحد بعد صدوره. وعرف دائماً ان الإمبراطور فريدريك الثاني، الذي كان على علاقة صداقة ومراسلة مع مونتسكيو، جعل منه الكتاب الذي يقرأ فقراته كل مساء، حتى وإن كان أعلن انه يخالف المؤلف بالنسبة الى بعض النقاط. وكذلك فعلت ملكة روسيا كاترين الثانية، في الوقت الذي هاجم فيه اليسوعيون وغيرهم الكتاب، ما جعل مونتسكيو يرد بوضع كتاب عنوانه «في الدفاع عن روح الشرائع». غير ان دفاعه لم يجد إذ أدرج، في السوربون، بين الكتب المحظورة. ولد شارل لوي - دي سيكوندا بارون دي مونتسكيو في عام 1689 في قصر عائلته قرب بوردو. وعلى رغم انتمائه الى أسرة قضاة عريقة، ربّي بين الفلاحين والفقراء. درس أولاً في معهد ديني ثم درس القانون في بوردو قبل ان ينتقل الى باريس حيث أقام 4 سنوات شحذت فكره ووضع خلالها رسائل حول «هلاك الوثنيين»، قبل ان يعود الى بوردو ليهتم بالشؤون العائلية ويتزوج ويلتحق بسلك القضاء. وهو في تلك المرحلة وضع الكثير من الكتب العلمية والطبية. أما بداية شهرته فكانت مع كتاب «الرسائل الفارسية» الذي رسّخ مكانته وجعله يمضي جلّ وقته في باريس مختلطاً بالأنتلجنسيا الواعية فيها. ومنذ عام 1726 بدأ يسافر ويتجول بين فيينا والبندقية وتورينو وجنوى وروما، ثم انتقل الى ألمانيا ثم الى لاهاي فإنكلترا. وكانت وفاته في باريس في عام 1755، أي ست سنوات بعد صدور «روح الشرائع». [email protected]