لم يخطر في بالي، ولا في بال كثر مثلي، أن يقوم هذا البلد المنكوب، فلسطين، باستضافة الآخرين. من هنا يبدو الذكاء الثقافي والحنكة السياسية معاً، لوزير الثقافة الشاعر الشاب، في إطلاق فكرة ملتقى روائي جامع للروائيين الفلسطينيين والعرب، على أرض فلسطين. يتبدّى هذا الذكاء وهذه الحنكة، في جلب الآخر، إلى أرض الحدث. في تعريف الروائيين بخاصة، وهو يدرك أهمية أقلامهم بوصفه صاحب قلم قبل أن يكون صاحب منصب، ليُري هؤلاء الروائيين حقيقة التجربة الفلسطينية على الأرض، لا على الشاشات، ومن المنابر المحتشدة بشعارات براغماتية مُأنجدة، إن صح اشتقاق اللفظ من الأجندة. في كلمته الختامية لملتقى الرواية المنعقد من السابع من شهر أيار (مايو) الجاري وحتى العاشر منه، يقول إيهاب بسيسو: يا إخوتنا القادمين من رؤية الحرية، لا تقسوا على أفئدتنا الموجوعة، لا تقسوا علينا بخطاباتكم الشاهقة، اهبطوا قليلاً من علوّ انشغالكم بنا، إلى حياتنا اليومية. وهنا يكمن سر الاستضافة: تقديم الحياة اليومية للروائي المعني غالباً بالتفاصيل اليومية، ليصنع منها شخوصه وأحداث كتاباته. وهذا ما حصل مبدئياً. ذهبنا نحن مجموعة من الروائيين، لرؤية أرض فلسطين، التي كانت تشكّل لأغلبنا حالة أقرب إلى الخرافة، وكأن فلسطين هي الأرض الضائعة، والحلم العسير. ذهبنا محكومين بالدهشة والألم والخوف... كل منا، كان يستعمل مسباره الروائي، في التقاط ما حوله. توقّفت أنا لدى عبارات روائية متناثرة، كانت تُكتب في رأسي من تلقاء نفسها، كأن المكان هو الذي يقذف بتلك المفردات في رأسي ويدوّنها. كنت أتعثر بالعسكر المحتَّل بين فينة وأخرى. عسكر يقول لك أن هذه الأرض ليست لك. لهذا يقطع عليك المشهد. لا يمكن للمشهد أن يستمر طويلاً، بل لا بد من حاجز مفاجئ، يقفز في وجه الباص الذي يقلّك أو السيارة، ليذكّرك بوجوده بطريقة سينمائية: قطع... تغيير اللقطة. أن يندس الإسرائيلي بين منعطف وآخر، لتتمهّل السيارة أو الباص، بانتظار أمر التحرك، هو احتلال لا للأرض فقط، بل وللقرار الداخلي للإنسان. أن يكون قرار العبور متوقّفاً على موافقة هذا الغريب، هو احتلال آخر: احتلال الحرية النفسية. كنتُ أحسّ بين منعطف وآخر، بين شارع وآخر، بين لوحة سيارة بيضاء ولوحة صفراء، بأنني أعيش فصاماً يعيشه الفلسطينيون، وربما اليهود، ولكن بطريقة أخرى. أقصد أن اليهود يعيشونه، على الأغلب بمنطق الأقوى، المنتصر. بينما نعيشه نحن القادمون من طرف الفلسطينيين، بمنطق الانكسار. يحق للسيارة ذات اللوحة الصفراء (الإسرائيلية) دخول منطقة السلطة الفلسطينية، ولا يحق العكس، لسيارة تحمل اللوحة البيضاء. التأهب الدائم، وتوقع الخطر، واحتمال الموت، عناوين تمنع الاسترخاء النفسي، وتضع أحدنا على كفّة القلق، كأن الموت أو العقاب بطريقة ما، ستحدث في أية لحظة. تعرضنا للعقاب في شكل ما. عاقبتنا إسرائيل وهي تمتنع عن منح تصاريح الدخول لجميع المشاركين في الملتقى، أو تمنح بعض التصاريح في الأيام الأخيرة للملتقى، مدركة أن تعطيل أحدنا، سيعطّل الآخرين، وهذا ما اتّبعته على حاجز الدخول والمغادرة. تعطّل واحداً من فريق مؤلف من 10 أو 15 شخصاً، لتضع الباقين في حالة انتظار، ومحاولة إذلال. هذا ما أراده وزير الثقافة وفريق عمله، حين استضافونا في فلسطين، كانوا يريدون أن نعيش معهم ونقاسمهم تفاصيل الحياة اليومية، تفاصيل الاحتلال. أن يستضيفك الآخر، يعني أن يفتح لك الباب لتطّلع على حياته: طقوسه، مطبخه، طرق مواصلاته، أماكن نومه، طعم قهوته، لهجته... أن يستضيفك، يعني أن يفتح أمامك باب قراءته. ولأنك روائي، يعرف مُضيفك أنك حرّ التفكير، فهو يثق بأنك ستقرأه بوعيك المختلف، وعيك النقدي، المعجون بعاطفة لا يمكن التخلص منها بسهولة، عاطفة الانحياز إلى الطرف الأضعف. كانت تراودني صور كارثية، وأنا داخل المسرح البلدي في رام الله، حيث انعقدت الفعاليات الثقافية، متصورة دخول عسكر الاحتلال، ليصرخوا بنا: هيّا.. لمّوا أغراضكم، وانصرفوا من هنا! ما الذي يمنع الاحتلال الذي يمارس اجتياحه للمقاهي والشوارع والبيوت والمصارف،من أن يدخل علينا ليوقفنا عن الحوار والسجال في فنون الرواية وهواجسها؟ منذ عودتي إلى فرنسا، وأنا أحلم ليليّاً بالحواجز، وهذا ربما كان أحد أهداف زيارة فلسطين: التماهي مع ناسها هناك. تماهيتُ مع سكان رام الله، إلى أن أحسستُ بأنني واحدة منهم. ففي خيمة دعم إضراب الأسرى، وجدتني محاطة فجأة برجال غرباء، وتهتُ عن صحبي، وأنا مصابة بذعر التجمعات، تلفتُّ حولي أبحث عن أحد أعرفه، شعرت بقلق من نظرات أحدهم، فوجدت يوسف يقف قربي، أمسكت بذراعه وقلتُ له: أبعدني عن الزحام. تفهّم يوسف ابن رام الله قلقي، ولم يناقشني ليؤكد لي أمان المكان، بل تعامل مع قلقي باحترام، وأبعدني عن الزحام، لأنتبه إلى أنني كنتُ داخل دائرة محاطة برجال الشرطة، لتحمينا. لم يكن خوفي مبرراً، سوى كاستناد إلى مخاوف عامة تتعلق بهلع التحرشات في الزحام، ووجدتني مجدداً أسبح في دوائر من الأمان، والشباب الذين أعرف وجوههم، في مقر الندوات، ينتشرون حولنا، كأنهم إخوتنا. أحسستُ بالأمان على رغم الاحتلال، إلى أنني عدتُ في الساعة الواحدة والنصف ليلاً برفقة صديقين مصريين، بعد أن أنهينا احتساء القهوة في مقهى بعيد نسبياً من الفندق، وعدنا نسير في شوارع فارغة، مع كلاب رأيتها تنبح علينا، تتقدم صوبنا، وتتوقّف... الاستضافة إذاً، أن تصير جزءاً من المضيف، أن يتماهى الضيف والمُضيف، وكما يقول المثل الشعبي لدينا: أظهر عذرك ولا تظهر بخلك، في الحضّ على استقبال الآخر، في أسوأ الظروف. أن يستضيفك الآخر فوق كل هذا، وفي نهاية كل هذا، يعني إقراراً داخلياً بأنه صاحب المكان، ولديه صلاحية استضافة الآخرين، وهذا ما كان عليّ الخروج به من فلسطين: الفلسطينيون أصحاب المكان في الروح والذاكرة والاسترخاء في التعامل مع المكان، على عكس الإسرائيليين، سادة القلق في النظرات والملامح والخوف والتخويف.