يذكّر اعتزام الولاياتالمتحدة ربط تأشيرات الدخول إليها مع ما يدوّنه طالب الفيزا في حساباته على مواقع ال «سوشال ميديا»، بالتباس ضخم يهيمن على مسار التقنيّة الرقميّة حاضراً. من الواضح أن القرار الأميركي يعطي الدليل على مدى ما بلغته الشبكات في «الاستيلاء» على أفكار البشر وخواطرهم ومشاعرهم، بل وصولاً إلى أجسادهم التي تتراكم صورها بغزارة على صفحاتها. واستطراداً، يدل القرار أيضاً على وجود تناقض مرير بين ذلك الاستيلاء من جهة، والانكشاف المذهل للأفراد على شبكة الإنترنت التي بات واضحاً أنها غير آمنة تماماً. ويكفي التذكير بالسيول المتدفقة باستمرار عن الاختراقات وسرقة البيانات والحسابات المصرفية ورسائل البريد الإلكتروني وسجّلات الشركات عن زبائنها وغيرها. في السياق عينه، من المستطاع التذكير باختراق «فرقة السحالي» («ليزرد سكواد» The Lizard Squad)، وهي مجموعة من قراصنة المعلوماتيّة، للشبكات الإلكترونيّة التابعة لشركة «سوني» Sony، تحديداً شبكة الألعاب الإلكترونيّة ل «بلاي ستايشن نتورك»Play Station Network، و «إكس بوكس لايف» Xbox Live المخصّصة للألعاب الإلكترونيّة التي تقدّمها «مايكروسوفت» في أجهزة « إكس بوكس». كرّر الجملة السابقة ثانيّاً وثالثاً و...إلى ما شئت. نعم: «مايكروسوفت» الشركة العملاقة بامتياز في المعلوماتية وصانعة نظام التشغيل «ويندوز» Windows الذي يدير ما يزيد على 95 في المئة من أجهزة الكومبيوتر في الكرة الأرضيّة! إذ أكّد أحد مستخدمي «تويتر» تحت اسم «كتيبة السحالي» أنّه استهدف تلك الشبكات. واعترفت «سوني» و «مايكروسوفت» بوجود عطل في الشبكة على «تويتر»، موضحتين أنهما تبحثان عن حل. نعم. لم تستطع الشركة التي أسّسها بيل غيتس، أسطورة الكومبيوتر والتقنية الرقميّة، أن تحمي نفسها من الاختراق. أليس عجيباً أن هناك من يصدق أن الشركات الكبرى تستطيع حماية وجود الناس وبياناتهم على الإنترنت، خصوصاً عبر تقنية «حوسبة السحاب» («كلاود كومبيوتنغ» Cloud Computing) التي تقدّمها الشركات العملاقة باعتبارها سلسلة حصون لا تخترق! بلغ الشلّل والعجز إلى حدّ أن شركة «مايكروسوفت» لم تستطع تحديد موعد لمعاودة تشغيل شبكتها. التغلغل في الأنسجة إذاً، الأرجح أنها مرحلة جسديّة حرفيّاً للتقنية الرقميّة. إذ استخدمت مكانتها المرموقة في الأعين المشدودة إلى الشاشات، أداة لتمدّد على اللحم والجلد، وكذلك اخترقت الدماغ لتنقل خواطره وأفكاره التي بثّت بالتخاطر عبر الإنترنت، للمرّة الأولى، في 2014 (أنظر «الحياة» في 13 أيلول- سبتمبر 2014). وفي 2015، انفجرت ظاهرة الأجهزة التي «تلبس» الجسد فتصبح جزءاً منه، بداية من الساعات الذكيّة ل «آبل» و «سامسونغ» ومروراً بنظارات «غوغل» ثم سوار «فت بت» لمراقبة الأداء الجسدي المباشر وغيرها. والأرجح أنّ شيئاً لا يقارن بتلك التجربة التي نُقِلَت فيها الأفكار التي تدور في بواطن الدماغ، إلى شبكة الإنترنت وفضائها الافتراضي في خريف عام 2014. وسجّلت تلك السنة بداية «التخاطر الشبكي» Internet Telepathy، وهو أمر ما زال في مستهل أمديته وآفاقه. وفي المقابل، أغلب الظن أنّ الكلمات السابقة لا تمثّل سوى الجانب المُضيء (أهو مضيء فعليّاً؟) من مسار التكنولوجيا الإلكترونيّة. إذ تتكاثر أيضاً الفضائح المدويّة تقنيّاً، وكلها تقدم دلائل على انكشاف هشاشة «حوسبة السحاب» التي روّجت لها الشركات العملاقة باعتبارها حصناً لا يخترق. وتذكيراً، شهد عام 2015 حدثاً حمل في طيّاته الكثير من التهديد للخصوصيّة الفرديّة. وتمثّل ذلك في الاندماج بين موقع التواصل الاجتماعي «فايسبوك» وتطبيق الاتصالات «واتس آب» الشهير أيضاً. ومن المستطاع ترجمة الاندماج بأنّه جمع البيانات والمعلومات التي تتهاطل أثناء التفاعل الاجتماعي للفرد على الإنترنت (عبر «فايسبوك»)، مع عوالم اتصالاته عبر الشبكات الخليوية (عبر «واتس آب»). في الإطار عينه، يجدر عدم نسيان فضيحة التجسّس الإلكتروني الشامل الذي تمارسه «وكالة الأمن القومي» التي كشفها الخبير المعلوماتي الأميركي إدوارد سنودن. وبذا، تصبح الفردية على الإنترنت مسألة تحتاج إلى تفكير نقدي معمّق. عيون ضائعة وأدمغة مشتتة ثمة أشياء أخرى تزيد في إلحاح المطالبة بتفكير نقدي حيال التقنية الرقميّة ومعطياتها. لنكتفي بمثال مفرد، لكنه حسّاس أيضاً. إذ بات شائعاً الشكوى من أنّ اللقاءات المباشرة بين الناس لم تعد مجديّة، لأن أفرادها يتطلعون إلى الشاشات أكثر مما يتطلعون ويصغون (الاتصال البصري المباشر ضرورة للتواصل المجدي)، إلى من يجاورهم جسديّاً ويشاركهم المكان نفسه. هناك شكوى من شدة التشتت وضعف التركيز في الأحاديث (ويترافق معها مباشرة الميل إلى الجمل السريعة والكليشيهات على أنواعها)، مع توزّع الانتباه بين الشاشة ومن عليها من جهة، ومن يتشاركون سوية العيش وأوقاته من جهة ثانية. لم يتردّد كثيرون في تشبيه الأمر بأنه معاناة واسعة لأعراض مرض التوحد («أوتيزم» Autism)! ربما ليس مبالغة تماماً، إذ يكفي القول أن كتاب البروفسور الأميركي نورمان دويدج «الدماغ وكيف يطوّر بنيته وأداءه» (2009)، جمع كمية كبيرة من الإحصاءات عن تلك الظاهرة التي لم تكن سوى في بداياتها آنذاك. في عام 2014، تبيّن أن انشداد العيون إلى الشاشات مدخل خطير إلى تدفق معلومات إلى الفضاءين الافتراضيين (هما عمليّاً فضاء مشترك) للإنترنت والشبكات الاجتماعيّة من جهة، وشبكات الخليوي الذي صار شيئاً يشبه حاسوباً مصغّراً مختصاً بالجانب الاتصالي من الحياة اليوميّة للبشر، من الجهة الثانية. والأرجح أن ذلك التدفّق له جوانب صعبة ومتشابكة، بل أنه يحتاج نقاشات مستمرّة.