ليس مجازفة القول أن التباساً ضخماً يهيمن على مسار التقنيّة الرقميّة حاضراً، بمعنى المزج بمرارة بين استيلاء الشبكات والتطبيقات على أجساد البشر، بل حتى «خواطرهم» من جهة، والانكشاف المذهل لهشاشة الوجود على الإنترنت وانعدام أمانه من الجهة الثانيّة. واستطراداً، يكفي التذكير بانهيارات ضخمة ما زالت طريّة في الذاكرة، على شاكلة اختراق «فرقة السحالي» (The Lizard Squad)، وهي من قراصنة المعلوماتيّة، الشبكات الإلكترونيّة لشركة «سوني» (Sony)، تحديداً شبكة الألعاب الإلكترونيّة «بلاي ستايشن نتورك» (Play Station Network)، و «إكس بوكس لايف» (Xbox Live) المخصّصة للألعاب الإلكترونيّة التي تقدّمها «مايكروسوفت» في أجهزة «أكس بوكس». كرّر اللفظ ثانيّاً وثالثاً و... إلى ما شئت. نعم: «مايكروسوفت» الشركة العملاقة بامتياز في المعلوماتية وصانعة نظام التشغيل «ويندوز» (Windows) الذي يدير ما يزيد على 95 في المئة من كومبيوترات العالم! وأكد أحد مستخدمي «تويتر» تحت اسم «ليزارد سكواد» («كتيبة السحالي») أنه استهدف هذه الشبكات. واعترفت الشركتان بوجود عطل في الشبكة على «تويتر»، موضحتين أنهما تبحثان عن حل. نعم، لم تستطع الشركة التي أسّسها بيل غيتس، أسطورة الكومبيوتر والتقنية الرقميّة، أن تحمي نفسها من الاختراق. أليس عجيباً أن هناك من يصدق أن الشركات الكبرى تستطيع حماية وجود الناس وبياناتهم على الإنترنت، خصوصاً عبر تقنية «حوسبة السحاب» التي قدّمتها الشركات العملاقة باعتبارها حصناً لا يخترق! بلغ الشلل والعجز حدّ أن شركة «مايكروسوفت» لم تستطع تحديد موعد لمعاودة تشغيل شبكتها مجدداً. التغلغل في الأنسجة إذاً، الأرجح أنها أيام جسديّة حرفياً للتقنية الرقميّة، إذ نفذت من حصنها المكين في الأعين المشدودة إلى الشاشات، لتتمدّد على اللحم والجلد، وكذلك اخترقت الدماغ لتنقل خواطره وأفكاره التي بثّت بالتخاطر عبر الإنترنت، للمرّة الأولى، في 2014. وفي 2015، يتواصل تكاثر الأجهزة التي «تلبس» الجسد فتصبح جزءاً منه، بداية من الساعات الذكيّة ل «آبل» و «سامسونغ» ومروراً بنظارات «غوغل» وليس انتهاء عند سوار «فت بت» لمراقبة الأداء الجسدي المباشر. لكن شيئاً لا يقارن بتلك التجربة التي نُقِلَت فيها الأفكار التي تدور في بواطن الدماغ، إلى شبكة الإنترنت وفضائها الافتراضي العام المنصرم. وسجّلت تلك السنة بداية «التخاطر الشبكي» (Internet Telepathy)، وهو أمر ما زال في مستهل أمديته وآفاقه. وفي المقابل، فأغلب الظن أن الكلمات السابقة لا تمثّل سوى الجانب «المُضيء» (أهو مضيء فعليّاً؟) من مسار التكنولوجيا الإلكترونيّة. تتكاثر أيضاً الفضائح المدويّة تقنيّاً، وكلها تقدم دلائل على انكشاف هشاشة «حوسبة السحاب» التي روّجت لها الشركات العملاقة باعتبارها حصناً لا يخترق. ومن الصعب عدم تذكر أن هذه السنة افتتحت على حدث حمل في طيّاته الكثير من التهديد للخصوصيّة الفرديّة. وتمثّل ذلك في الاندماج بين «فايسبوك» و «واتس آب»، بمعنى أنه جمع البيانات والمعلومات التي تتهاطل من التفاعل الاجتماعي للفرد على الإنترنت، مع عوالم اتصالاته عبر الشبكات الخليوية. ومع عدم نسيان فضيحة التجسّس الإلكتروني الشامل الذي تمارسه «وكالة الأمن القومي» التي كشفها الخبير المعلوماتي الأميركي إدوارد سنودن، تصبح الفردية على الإنترنت مسألة تحتاج إلى تفكير نقدي معمّق. ثمة أشياء أخرى تزيد في إلحاح المطالبة بتفكير نقدي حيال التقنية الرقميّة ومعطياتها. لنكتف بمثال مفرد، لكنه حسّاس أيضاً. فقد باتت شائعة الشكوى من أن اللقاءات المباشرة لم تعد مجدية، لأن أفرادها يتطلعون إلى الشاشات أكثر مما يتطلعون ويصغون (الاتصال البصري المباشر ضرورة للتواصل المجدي)، إلى من يجاورهم جسديّاً ويشاركهم المكان نفسه. هناك شكوى من شدة التشتت وضعف التركيز في الأحاديث (ويترافق معها مباشرة الميل إلى الجمل السريعة والكليشيهات على أنواعها)، مع توزّع الانتباه بين الشاشة ومن عليها من جهة، ومن يتشاركون سوية العيش وأوقاته من الناحية الأخرى. لم يتردّد كثيرون في تشبيه الأمر بأنه معاناة واسعة لأعراض مرض التوحد «أوتيزم» (Autism)! ربما ليست مبالغة تماماً، بل إن كتاب البروفيسور الأميركي نورمان دويدج «الدماغ وكيف يطوّر بنيته وأداءه» (2009)، جمع كمية كبيرة من الإحصاءات عن تلك الظاهرة. في عام 2014، تبيّن أن انشداد العيون إلى الشاشات مدخل خطير إلى تدفق معلومات إلى الفضاءين الافتراضيين (هما عمليّاً فضاء مشترك) للإنترنت والشبكات الاجتماعيّة من جهة، وشبكات الخليوي الذي يتحوّل باضطراد إلى نوع من كومبيوتر اتصالي للحياة اليوميّة، من الجهة الثانية. والأرجح أن ذلك التدفّق له جوانب صعبة ومتشابكة، بل إنها تحتاج نقاشات مستمرّة.