الأرجح أن التقرير الذي صدر أخيراً عن «الجمعية الأميركية للسرطان»، يشكّل «نجمة مضيئة» في سماء النظام الصحي في الولاياتالمتحدة (في الوقاية والعلاج)، وتحدياً لمجموعة من المفاهيم الرائجة علمياً وشعبياً عن السرطان ونشوئه وعلاجاته، ودور البيئة والجينات والتقدم العلمي في هذه الأمور. يبدأ التقرير بالإشارة إلى تراجع مستمر في الإصابة بالأورام الخبيثة بنسبة 1.8 في المئة سنوياً بين الرجال (في السنوات الخمس الأخيرة) و0.6 في المئة سنوياً بين النساء خلال السنوات ال15 الأخيرة. وتعتبر هذه الأرقام إنجازاً كبيراً لنُظُم الوقاية من السرطان التي تشمل مكافحة التدخين ومراقبة الأطعمة وزيادة وعي الجمهور بأسلوب الحياة الصحي والاهتمام بالتلقيح وانخراط الإعلام في حملات التوعية عن السرطان والعوامل المرتبطة به، وتكاثر الجمعيات الأهلية المهتمة بمكافحة الأورام الخبيثة وغيرها. وفي تفسيره للحقائق التي تشير إليها هذه الأرقام، لاحظ البروفسور جون سيفرن رئيس «الجمعية الأميركية للسرطان» أن تراجع نسب الإصابة ب 1 إلى 2 في المئة قد يبدو متواضعاً، لكنه يعني تجنّب إضافة 650 ألف حالة سرطان على مدار 15 عاماً. (وتؤكد الأرقام أيضاً) ان ذلك التراجع مستمر بشكل ثابت، ما يعني نجاح هذه البلاد في برامج الوقاية من ذلك المرض المميت». والأرجح أن نُظُم الوقاية الأميركية ناضلت ضد فيض كبير من العوامل التي تزيد الإصابات بالسرطان في المجتمعات الحديثة. ويعطي تلوّث الهواء مثالاً عنها. فقد أكّدت دراسة أجرتها مجموعة علمية إيطالية، ونُشِرَت قبل أيام قليلة من صدور التقرير الأميركي، أن تنفسّ الهواء الملوّث، حتى لفترة قصيرة قد يتلف الحمض الوراثي ويؤثر على تركيب الجينات، بطريقة تزيد من خطر الإصابة بالسرطان. ودرس العلماء تركيب الحمض الوراثي عند عمال يتمتعون بصحة جيدة، بعد تعرضهم لجسيماتٍ صغيرة من مواد التلوّث موجودة في الهواء قرب مدينة ميلانو. وتبيّن أن تنشق الهواء الملّوث لثلاثة أيام، أدى الى إضعاف الجينات التي تقاوم السرطان. والمعروف أن المدن الأميركية الكبرى تأتي في طليعة المراكز التي تعاني من تلوّث الهواء فيها. ويشير تقرير «الجمعية الأميركية للسرطان» إلى إنخفاض الإصابة في ثلاثة أنواع من الأورام الخبيثة عند الرجال (الرئة والبروستات والقولون) وفي نوعين من سرطانات النساء (الثدي والقولون). ويرصد التقرير الأميركي أيضاً تراجع عدد الوفيات الناجمة عن السرطان في الولاياتالمتحدة. فعند الرجال، تراجعت الوفيات ب 19.2 في المئة إجمالاً، مع انخفاض وفيات سرطان الرئة (37 في المئة) والبروستات (24 في المئة) والقولون (17 في المئة)، خلال السنوات الخمس الأخيرة. وتشكل هذه الأرقام 80 في المائة من إجمالي التراجع. وبين النساء، انخفضت وفيات السرطان 11.4 في المئة خلال السنوات ال15 الأخيرة، مع تراجع وفيات سرطان الثدي 37 في المئة، والقولون 24 في المئة. ويمثّل هذان الرقمان 60 في المئة من إجمالي الانخفاض. وتُتَرجِم هذه الأرقام نجاح النُظُم الطبية في التشخيص المُبكّر للسرطان وفي علاجه أيضاً. وتشير الى كفاءة تدخلات طبية مثل استعمال المنظار في الاكتشاف المُبكّر لسرطان القولون مثلاً. وشدّد التقرير على أن النجاح في العلاج لا ينفصل عن إجراءات الوقاية، بحسب ما يظهر في العلاقة بين انخفاض نسب التدخين عند الرجال وزيادة نسب النجاح في علاج سرطان الرئة عندهم. وأظهر التقرير عينه ارتفاع معدلات السرطانات لدى ذكور الأميركيين الأفارقة ب 18 عن نظرائهم البيض. وفي مفارقة لافتة، أشار التقرير الى أن صاحبات البشرة السوداء أقل تعرضاً للإصابة بسرطان الثدي من نظيراتهن البيضاوات، ولكن الإفريقيات الأميركيات يمتن بنسبة أكبر في حال إصابة أثدائهن بالورم الخبيث. ولا يحسم التقرير في شأن هذا التفاوت، مذكراً بمجموعة كبيرة من الفوارق بين البيض والسود اجتماعياً في الولاياتالمتحدة. وقبل أيام أيضاً، ظهرت دراسة عن «مركز سرطان الثدي» في جامعة «إيموري» الأميركية، يتحدث عن رفض ربع النساء السود الخضوع للعلاج بالأدوية الكيماوية والأشعة المستخدمين كعلاج في المراحل المتقدمة من سرطان الثدي. وأشارت الدراسة الى غموض الأسباب التي تقف وراء رفضهن هذين النوعين من العلاج. ومُجدداً، لربما تؤدي العناصر الاجتماعية دوراً في هذا الرفض، خصوصاً أن العلاجين يترافقان مع تغييرات جسدية كبيرة (الوهن الشديد وتساقط الشعر مثلاً)، ما يجعل المريضة بحاجة الى مساندة كبيرة عائلياً واجتماعياً.