في معرضها الفردي الأول بعنوان «الجسد يبقي الأثر» المستمر في مؤسسة «تشكيل» في دبي حتى 11 من الشهر المقبل، تعيد هدية بدري تعريف علاقتها بالعمل الفني كأداة للكشف والانعتاق انطلاقاً من التجربة الشخصية الصرفة الممتدة على مدار سنة ونصف السنة مع معاناة عمّتها مع داء باركنسون وأزمات قلبية متعاقبة، ومن ثمّ وفاتها (دبي، 2015). والمعرض تتويج لمشاركة الفنانة في النسخة الثالثة من «برنامج الممارسة النقدية» مع مؤسسة «تشكيل» والذي يعنى بتقديم الدعم المباشر لعدد من الفنانين بغية تطوير ممارستهم الفنية عبر زجّهم في تجربة مباشرة مع مدربين يختارونهم، يتعاونون معهم ويوجهونهم ويقيّمون ممارستهم الإبداعية طوال فترة البرنامج، ما يساهم في نقل المعرفة وإثراء الحوارات على امتداد الثقافات والممارسات المختلفة. ويمكن القول إن هدية بدري نجحت خلال الأشهر الثمانية (مدة البرنامج) في محو الخط الفاصل والملتبس، بين خلفيتها الأكاديمية في الاتصال البصري وممارساتها اللاحقة في مجال التصميم، وبين العمل الفني. ومن خلال العمل الدؤوب مع رودريغ غرانت، المشرف المباشر على مشاركتها في البرنامج والرئيس والأستاذ المشارك في قسم التصميم الغرافيكي بكلية أونتاريو للفنون والتصميم في تورونتو (كندا)، الذي يؤمن بدوره بأن «التصميم» في جوهره فعلٌ استكشافي ونقدي ينمّ عن فهم أوسع للمحيط وعن قدرة الفنان/ المصمم على تفكيك مكوّنات سطوة السلطة المحيطة (مجموعة الآراء السائدة) والبناء عليها لإنتاج مخرجات لا تغفل التجربة العاطفية للمبدع، ولكنها تركز على كيفية نقد تلك السلطة عبر طرح أسئلة يتفاعل معها المتلقي في المقام الأول. من هنا، انطلقت هدية في رحلة استكشافها لتلك المرحلة المفصلية في حياتها والتي تصفها ب «الصدمة». إذاً بدأت المرحلة الأولى من التحضير للمعرض بمحاولة إيجاد عناصر بصرية قادرة على التعبير عن مفهوم «الفقد»، فلجأت الفنانة إلى التدقيق في «أغراض» العمّة الراحلة التي احتفظت بها، وإعادة تفسيرها والتفاعل معها والبناء عليها وتوسيع نطاقها لتكثّف بذلك سلطة المادة على الملموسية الذاكرة وآلامها. ومن رحم تلك المقاربة نشأت ثنائيات المعرض البصرية: الفرد والمؤسسة الطبية، المنزل والمستشفى، الخاص والعام، الجسد والذاكرة، اللغة والشعور، المرض وفعل المقاومة. وجسّد الخيط، ببعديه الحسيّ والدلالي، إحدى أدوات هدية بدري المثالية لنقد بنية المؤسسة الطبية مستخدمة، في مفارقة مفعمة بالرمزية، غرزات بطانية حمراء بلون الدم لتقطيب جروح افتعلتها هي على قفازات طبية مشدودة على إطار تطريز. وفي ذلك إعادة قراءة صادمة لهواية عمّتها في فن التطريز ولتلك الندوب التي تركها العمل الجراحيّ في جسد العمة، إذ تتحول برودة تلك القفازات الصمّاء إلى بشرة تُغرز فيها الإبرة والخيط في فعل أدائي مجازي يهدف إلى المقاومة وتخطي الألم. ويعاود الخيط الظاهر في إحدى رسائل هدية الإلكترونية إلى الطبيب المعالج لعمتها، هذه المرّة ليطمس عن قصد باستخدام ماكينة الخياطة معالم الكلمات الباردة للمؤسسة الطبية التي- على تعاطفها الظاهري- ما هي إلا لغة قاسيّة شديدة البرود. تقول هدية بدري: «كانت المفارقة التي واجهت العمل عندما اكتشفت أن غالبية الطقوس التي ينخرط فيها المرضى- إما لنسيان محنتهم أو لتمضية الوقت- تتمتع بطبيعة منزلية أيضاً». يعيدنا هذا القول إلى غرانت الذي نجح في إقحام هدية في تجربة الاستكشاف تلك، لتجترح الحياة من صلب رحلتها مع معاناة العمّة، مجسدّةً بذلك فعل المقاومة وإرادة الحياة في مقابل جراح الروح الصعبة الاندمال. مرةّ أخرى، وعبر الحياكة والتقطيب كمكوّن أساسي للعمل، يتخذ فعل الفنانة التطهيري بعداً ناقداً للممارسات السريرية في المستشفيات حيث يجري التعامل مع البشر كرقم، أو كمادة، مع إغفال تام للبعد الإنساني في تناقض صارخ مع الحملات الدعائية لتلك المؤسسات. وهذا يفسر تطريز الفنانة لعدد من الشعارات التسويقية «الفارغة» التي تستخدمها المؤسسات الطبية على مجموعة من الأقنعة الجراحية: «عناية ممتازة»، «نقدم لكم أفضل عناية»، «أكثر بكثير من مجرد دواء»، «ننشر الصحة الجيّدة والسعادة». ويأتي عمل «التشريح والختم» (الصورة) المكوّن من زهرتين بيضاء وبنفسجية، بمثابة جرح كبير في الأبيض وقطبات في البنفسجي، فيكوّن صورة «دامغة» لإحدى النهايات المفترضة لسردية الفنانة. وقد نجحت هدية بدري في توظيف أدواتها والمواد التي اشتغلت عليها، لتفكيك مفهوم «الفقد» ووقعه السيكولوجي على نفسها وعلى الجمهور، وبرعت في استخدام ثنائية الخاص/ العام لتوليد تجربة فريدة عند المتلقي، تعزله عن هدية وعمتّها، وتزجّه في العمل الفنيّ كمنجز نهائي يخاطب حالة عالمية بامتياز: الألم الجمعي، مقاومته، والتصالح معه. يحسب لمؤسسة «تشكيل» هذا الجهد في تعميق الممارسات الفنية المعاصرة والشابة، في دولة الإمارات العربية المتحدة، ولكنه في الوقت ذاته يطرح أسئلة كثيرة حول الخطط الموضوعة لاستدامة هذه التجارب الجيّدة، وتفعيلها ونقلها إلى مستويات أكبر على مستوى المنطقة.