في وقت واحد تقريباً خلال 2016 صدر في القاهرة كتابان يربط بينهما أمر مشترك: استعادة الذاكرة التاريخية للمدن الكبرى التي لحقها «التطور غير المتكافئ» نتيجة للهجرة من الريف وانتشار العشوائيات وتغيّر الأنظمة السياسية. أما الأول فهو كتاب الروائي التركي المعروف أحمد حمدي تانبينار «خمس مدن» (دار صفصافه) الذي يتحدث فيه عن خمس مدن مهمة عاش فيها بحكم تنقّل الأسرة والعمل (أرضروم وقونيه وبورصه وأنقره واستانبول) وشهد ما فيها من تحولات كبيرة تعكس التغيرات السياسية ما بين السلطنة العثمانية والجمهورية الكمالية، التي تبث الحنين إلى الماضي لدى الجيل المخضرم. وأما الكتاب الثاني الذي نتناوله هنا فهو «شُبرا: اسكندرية صغيرة في القاهرة» للمؤرخ المصري د. محمد عفيفي، الذي أصدرته الهيئة العامة للكتاب. وكما هو الأمر مع تانيبار فإن د. عفيفي يمثل أيضاً الجيل المخضرم الذي عايش التحولات المتسارعة في القاهرة وغيرها مع التغيرات السياسية من الملكية إلى الجمهورية بعهودها المختلفة (جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك ومحمد مرسي وعبد الفتاح السيسي) التي كانت لها مقارباتها في التعامل مع الماضي تنعكس على آثار الماضي وعلى الحاضر العمراني. ولد د. عفيفي في شُبرا عندما كانت ضاحية جميلة يغلب عليها الطابع الكوسموبوليتي (اسكندرية صغيرة) ومع التغيرات السياسية والهجرة من الريف واتساع العشوائيات ضاعت شبرا القديمة بعد أن أصبحت حياً من أحياء القاهرة الكبرى، وانعكس كل هذا على النواة التي قامت شبرا عليها: قصر محمد علي باشا الكبير الذي بني خلال سنوات 1809-1821. في كتاب د. عفيفي يتناول الفصل الأول أصل الاسم (من اللغة المصرية القديمة ثم من اللغة القبطية، حيث تحول من «جوبرو» إلى «شبرو») التي كانت عبارة عن أراض زراعية حتى مطلع القرن التاسع عشر. وفي هذا السياق يتحدث المؤلف عن أربع محطات تاريخية مهمة جعلت شبرا تتحول خلال قرن إلى ضاحية أرستقراطية بطابع بحر متوسطي ثم إلى حي شعبي يحتضن الحركة السلفية الجديدة. كانت البداية مع محمد علي باشا التي اختار هذه المنطقة الريفية الجميلة خارج القاهرة لبناء قصره الكبير خلال 1809-1821، الذي جاء على نمط معماري غير معروف حتى ذلك الحين، وأمر بشق طريق عريض ومستقيم من القاهرة إلى القصر وزرعه بأشجار اللبخ والجميز. ومع هذه البداية تحولت هذه المنطقة إلى موطن للقصور الملكية، حيث أنشأ سعيد قصر النزهة (الذي تحول إلى قصر للضيافة في عهد إسماعيل) وأنشأ الأمير طوسون ابن سعيد قصراً كبيراً أيضاً لتتعزّز بذلك الصورة الأرستقراطية لشُبرا الجديدة ولتجذب إليها السكان الجدد حتى تجاوز عددها عشرة آلاف نسمة في 1892، وبعد خمس سنوات فقط (1897) ما يقارب ثلاثين ألف نسمة. في مطلع القرن العشرين (1902) كان التطور الثاني المهم ألا وهو إنشاء خط الترام من قلب القاهرة إلى شبرا، التي لم تعد بعد ذلك ضاحية منفصلة عن القاهرة نتيجة للهجرة الأولى الكبيرة من الريف. ففي 1927 أصبح سكان القاهرة أكثر من مليون نسمة نصفهم تقريباً من المولودين فيها. وفي تلك السنوات (الثلاثينات) جاء جدّ د. عفيفي كغيره من المنوفية القريبة ليستقر هناك. بعد ذلك بخمسين سنة (1952) جاء التطور الثالث مع انقلاب 1952 وإلغاء الملكية في 1953 والتوجه إلى الاشتراكية لاحقاً. في هذا العهد تحولت شبرا إلى بوابة شمالية للقاهرة مع شق طريق الاسكندرية -القاهرة. وبعد خمسين سنة أخرى تقريباً (2000) كان افتتاح مترو شبرا «نقطة تحول مهمة شبيهة إلى حد كبير باللحظة التاريخية المهمة في 1902»، فارتفعت أسعار الأراضي والمساكن وتحولت أجزاء من شبرا إلى أسواق تجارية تنافس ما هو موجود في وسط البلد. ولكن في الخمسين سنة الأخيرة ما بين المحطتين التاريخيتين (1952-2000) بدأت صورة شبرا العمرانية والسكانية والثقافية تتغير بسرعة. فقد كان وجود الأجانب (اليونان والألبان الخ) واضحاً في المدينة وهو ما جعل الأقباط يزداد عددهم حتى أصبح يمثل ربع السكان، وانعكس ذلك على ثقافة التعددية والتعايش مع الآخر. ففي 1907 أنشأ الألبان أول مدرسة لهم، كما أنشأ اليونان المقاهي التي عكست ثقافة شرق المتوسط. ولكن بعد التوجه إلى الاشتراكية حدث رحيل سريع للأجانب من شبرا ومصر عموماً، وجاءت هزيمة 1967 لتسرّع مما يسميه د. عفيفي «ترييف شبرا وضياع الحلم». فمع رحيل الأجانب والهجرة الجديدة بعد 1967 ستأتي موجات من الريف «لم تأت لتتكيّف مع المدينة» بل «أدت إلى ترييف شبرا من ناحية القيم والعادات»، على ما يقوله الكاتب نعيم صبري في روايته «شُبرا». هذه الموجات الجديدة من الريف، بحسب د. عفيفي، كانت «أقل ثقافة وأكثر حذراً من المدينة وأكثر عصبية لقرى المهجر». ومع «ترييف شبرا» ستبدأ هجرة الأقباط إلى مصر الجديدة لأن شبرا «لم تعد مثالاً للتعايش المشترك»، كما سيهاجر أغنياء المسلمين إلى الدقي والمهندسين ليتركوا شبرا لأبناء «الشريحة الصغرى من الطبقة المتوسطة» التي لم تستطع مقاومة «ترييف شُبرا». أما النتيجة فقد كانت تحول شبرا إلى حاضنة للحركة السلفية الجديدة مع ظهور الشيوخ محمد عبد المقصود وممدوح إسماعيل وجمال صابر، وخاتمة ل «العصر الذهبي لشبرا» التي كانت «اسكندرية صغيرة». وهكذا من طابع شرق المتوسط والتعدد الثقافي بدأ إطلاق اللحى والحجاب يسودان بالتدريج في هذا الجزء من القاهرة. وإذا كان هناك من عنوان لهذا التحول التاريخي فيمكن تلخيصه بجملة: تحول شُبرا من موطن للمغنية العالمية داليدا إلى موطن لشيوخ السلفية الجديدة. وربما يمثل مصير القصر الذي قامت على أساسه شبرا مؤشراً آخر على كل هذه التحولات التاريخية. فقد تحولت بعض قصور الأسرة إلى مدارس في العهد الملكي (قصر النزهة تحول إلى «مدرسة المعلمين» ثم إلى «المدرسة التوفيقية» وقصر الأمير طوسون تحول إلى «مدرسة شبرا الثانوية» الخ)، ولكن قصر محمد علي باشا بقي يمثل مصر الحديثة حتى 1952. أما بعد ذلك فقد لحق بالقصر ما لحق بالقصور الأخرى ل «العهد البائد» فتم تحويل بعضه إلى مخازن وبنيت في حدائقه كلية الزراعة والمعهد الزراعي وضاع القصر وسط التعديات والعشوائيات. مع اقتراب الذكرى ال200 لتولي محمد علي باشا الحكم، الذي أصبحت صورته مختلفة بعد 1970، تولت وزارة الآثار إزالة التعديات وقام الرئيس الأسبق حسني مبارك بافتتاح القصر في أواخر ذلك العام (26/12/2005) الذي أعلن بكامله «عام محمد علي باشا». ولكن يبدو أن الترميم كان على عجل للحاق بالمناسبة في الأيام الأخيرة لذلك العام، حيث أغلق القصر أمام الزوار لبروز تصدعات في 2012، وأدرج القصر في برنامج الترميم منذ 2014 في انتظار التمويل، على حين أن وزير الآثار الحالي د. خالد العناني صرّح عند ظهور كتاب د. عفيفي أن ترميم القصر سيبدأ فور الانتهاء من أعمال الدراسات الفنية.