لم يكن خارج السياق أن ينجح تعديل النظام في الاستفتاء السياسي التركي، لكن العكس تماماً هو سقوطه، لكن نسبة الذين رفضوا التعديلات الدستورية كانت الأكثر إثارة للانتباه. فالرافضون قاربت نسبتهم نسبة الموافقين، وتوزّعوا على طيف جُغرافي وهوياتي ذي دلالات على انقسام المُجتمع التركي في المجالات القومية والمذهبية والثقافية والمناطقية، وهذا الاستقطاب السياسي/الثقافي الشاقولي التركي سيكون الآلية الأكثر فاعلية في تحديد السياق الذي ستسير وفقه الحياة العامة التُركية في الأفق المنظور. خصوصاً أن ما يُمكن تسميته ب «مُعسكر الموالاة» الجامع للأحزاب القومية المُحافِظة، بات يتمركز بالتقادُم حول الأتراك السُّنة الأناضوليين المحافظين، مقابل المنتمين إلى الهويات الأهلية التُركية الأخرى، من أكراد وعلويين وعلمانيين مدنيين. على أن هذا الانقسام التُركي الراهن، ذو تاريخٍ تراكمت عبره الاستقطابات الأهلية، منذ أكثر من ثُلث قرن، حين كان انقلاب عام 1980 تأسيساً للنِظام السياسي الراهن، وجرت على بنيته التحتية الكثير من التعديلات والتحولات، كُل واحدة منها كانت لُبنة في جدار هذا الاستقطاب. جرى الاستفتاء الأول على الدستور الحالي عام 1982، بعد سنتين فقط من الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال كنعان أفرين، وقضى عبره على كامل الحياة السياسية والمدنية في البِلاد، بحجة مُناهضة الحرب الأهلية التي كانت مُستمرة بوتائر مُختلفة طوال عقدٍ كامل قبل ذلك. لم تتجاوز نسبة الرافضين لهذا الدستور ال10 في المئة، عدا في المناطق الكُردية جنوب شرقي البِلاد (ولايتا دياربكر وتونجلي الكُرديتان وصلت نسبة الرفض بهما إلى 20 في المئة). فالمناطق الكُردية كان تأثير سياسات الانقلاب عليها مُضاعفاً، فهي كانت قاعدة للحركتين اليسارية والقومية الكُردية، العدوتين الوظيفيتين اللتين بنى عليهما الانقلابيون شرعية فعلتهم. صحيح أن الرافضين الحقيقيين كانوا يتجاوزون ذلك وقتئذ، لكن رُهاب أفعال الانقلابين وخشية عودة الحرب الأهلية كانت وراء عدم رفض الدستور بنسبة كبيرة. فنسبة المُشاركين وفق الأرقام الرسمية تجاوزت 90 في المئة من مجموع الذين يحق لهم التصويت. بعد أقل من سنة على الاستفتاء الأول، حصلت الانتخابات العامة في البِلاد، وكان واضحاً أن الانقلابيين عقدوا توافقاً غير مُعلنٍ مع التيار القومي المُحافظ برئاسة تورغوت أوزال، ليكون الأخير زعيماً سياسياً ضمن الحدود المتوافق عليها مع جنرالات الانقلاب، الذين تبوّأ زعيمهم كنعان أفرين رئاسة الجمهورية. لكن عودة الحياة العامة النسبية سمحت بصعود علني ونسبي لرافضي سياسات الانقلاب. كان الحزب الشعبي التُركي «الأتاتوركي» التعبير السياسي الأكبر عن كُتلة الرافضين لتوافق الانقلابيين مع حزب الوطن الأم «حزب تورغوت أوزال». حصل الحزب الشعبي على قُرابة ثُلث الأصوات، وحاز على غالبية واضحة في المناطق الكُردية والساحلية «العلوية». شيء مُصغر مما جرى في الاستفتاء الأخير، حيث جمعت كُتلة الرافضين الأكراد مع العلويين والأتاتوركيين العلمانيين. بعد خمس سنوات من «استقرار» الحياة العامة في البلاد، جرى أول استفتاء على الدستور التأسيسي. كان الاستفتاء على مادة واحدة من الدستور (المادة الرابعة)، كانت تحول دون مُشاركة زُعماء الأحزاب السياسية المدنية في الحياة السياسية لمُدة عشر سنوات. بالفعل نجح الاستفتاء في إجراء التعديل بنسبة طفيفة، لكن المفاجئ أن كُتلة الرفض الكُبرى للتعديل كانت مُطابقة إلى حد كبير مع قاعدة المؤيدين الحاليين لحزب العدالة والتنمية. فالمناطق الكُردية والساحلية والعلوية شاركت بكثافة في ذلك الاستفتاء وصوتت بنعم، فيما كان كامل الولايات الأناضولية رافضاً. أجريت الانتخابات العامة بعد قرابة شهرين من ذلك الاستفتاء، وكانت بكُل المقاييس عملية قصم للتيار العلماني الأتاتوركي، الذي كان يُعاني كُل اشكال الانقسام الداخلي. فعلى رغم عودة أردال أنينو زعيماً للحزب، وهو نجل عصمت أنينو الزعيم التاريخي الثاني للحزب بعد مصطفى كمال. إلا أن الحزب لم يحصل إلا على قُرابة رُبع مقاعد البرلمان. فيما عاد الزعيم القديم ليمين الوسط سُليمان ديميريل إلى الحياة العامة، في ظل اكتساح حزب الوطن الأم وتورغوت أوزال البرلمان بشكلٍ مُطلق. على أن طبيعة تركيب قانون الانتخابات وقتئذ كانت تُبين مدى السعي الى إلغاء أية مقاومة لتوافق أوزال مع الانقلابيين. فالفارق بين كُل الأصوات التي حصل عليها حزب الوطن الأم والأصوات التي حصل عليها الحزب الأتاتوركي لم تكن تتجاوز ال12 في المئة، إلا أن حزب الوطن الأم حصد ثلاثة أضعاف مقاعد الحزب الأتاتوركي. بعد أقل من سنة من ذلك (في أيلول/ سبتمبر 1988)، فشل الاستفتاء في تمرير تعديلات دستورية تدعو لانتخابات عامة قريبة، وأجمع أكثر من ثُلثي المستفتين على رفض تلك التعديلات، ولم يحظ بالغالبية إلا في ولاية واحدة، هي ولاية الزعيم تورغوت أوزال (ملاطيا). كان الفشل في تمرير التعديلات الدستورية عام 1988 بمثابة انتكاسة لكُل مشروع تورغوت أوزال، خصوصاً أن رهبة الانقلابيين كانت قد تبددت نسبياً. ففي الانتخابات العامة عام 1991 خسر أوزال غالبيته البرلمانية، وعادت الحياة السياسية للقلق وانقسام البرلمان بين أكثر من حزب سياسي، لا يُمكن لأي منها أن يبني تحالفاً مع الآخر. لكن البارز كان عودة حزب اليمين الأتاتوركي إلى واجهة الحياة السياسية، واستحواذه على قُرابة نصف مقاعد البرلمان. في ظل غياب مُعارضة سياسية واضحة لبرنامجه، عدا المناطق الكُردية والأناضولية الأكثر مُحافظة. على أن قمة الانهيار في الحياة العامة كانت في انتخابات عام 1995، حينما صعد حزب الرفاه الإسلامي، من دون أن يستحوذ على غالبية برلمانية واضحة، وأن يكون مُضطراً لتشكيل تحالفٍ سياسي مع أحد نظيريه اللدودين، حزب الوطن الأم الأوزالي أو الطريق القويم اليميني العلماني. وهُما الحزبان اللذان على رغم مُناهضتهما حزب الرفاه، إلا أنهُما لم يكونا يستطيعان أيضاً تشكيل تحالفٍ داخلي بينهُما. بعد مرور أقل من سنتين على تحالف حزب الرفاه مع حزب الوطن الأم، تدخّل الجنرالات من جديد، عبر البيان الشهير الذي أنهى حُكم نجم الدين أربكان عام 1997، حيث سُمي وقتها ب «انقلاب ما بعد الحداثة»، وبذلك تأسّس الاستقطاب بين الحركة الإسلامية التُركية وبقية النُخب السياسية. بين عامي 1997- 2002 تمركزت الحياة السياسية التُركية على قاعدة التحالف بين المؤسسة العسكرية والأحزاب القومية العلمانية، لتهميش الحزب الإسلامي، فيما بقيت المناطق الكُردية خارج اللعبة السياسية تماماً. فأي من الأحزاب السياسية التُركية في انتخابات 1999 لم يحصل حتى على 20 في المئة من أصوات الناخبين في المناطق الكُردية، الذين ما كانوا يقترعون بنسبة كثيفة أساساً، وكانوا يستشعرون انفصاماً تاماً عن الحياة العامة. كانت انتخابات عام 2002 بمثابة قلبٍ تام لتلك المُعادلة. فحزب العدالة والتنمية عاد بقوة كحزب أول في البرلمان التُركي، ولم يستطع سوى حزب الشعب الجمهوري الأتاتوركي الصعود للبرلمان، فيما بقيت المناطق الكُردية خارج اللعبة السياسية تماماً. وللتذكر فإن أهم ولايتين كُرديتين (ماردين ودياربكر) لم يحصل فيهما حزب العدالة والتنمية سوى على 15 في المئة و16 في المئة على التوالي، وحصل حزب الشعب الجمهوري على أقل من ذلك. أثناء انتخابات عام 2007 ومن ثُم الاستفتاء الذي جرى في تلك السنة، وبعده الاستفتاء الذي جرى عام 2010 وتلته الانتخابات في 2011، ومن ثُم جولتا الانتخابات عام 2015 والاستفتاء الأخير، فإن عملية الاستقطاب الداخلي التُركية قد جرت عليها ثلاثة تحولات ذات مغزى: من طرفٍ صعد حزب الشعوب الديموقراطي كواجهة للعمل السياسي الكُردي في تُركيا، وبذا غدا أداة في عملية الاستقطاب التي تتراكم. من طرف آخر حسمت الحركة القومية الراديكالية موقفها الذي كان مُتردداً بين حزب العدالة والتنمية وحزب الشعب الجمهوري، فقد التصقت بالأول خشية من تطور الحركة القومية الكُردية. أخيراً فإن حزب الشعب الجمهوري كنظير ومنافسٍ لحزب العدالة والتنمية، بات يعتمد في شكل مُتزايد على الخطابات والقواعد الاجتماعية المُناهضة لحزب العدالة والتنمية على هذه الأسس. شيء مُطابق بجوهره لما يفعل حزب العدالة والتنمية نفسه من حيث الآلية، ومتباين معه من حيث المسعى. لسوء طالع المُجتمع التُركي، فإن هذه العوامل كلها تؤسس للمزيد من الاستقطاب المناطقي والسياسي والأهلي، وهي التي ستكون الآلية الأهم في الحياة العامة التُركية في السنوات المقبلة. * كاتب سوري