قبل أيام قلت في الفقرة الأولى من هذه الزاوية انني ضد حكم الإعدام لأي سبب وأستثني الذين يعتدون جنسياً على أطفال صغار ويقتلونهم ونائب الرئيس الأميركي السابق ديك تشيني، فقد كانت الزاوية عن موت مئات ألوف العراقيين في حرب استعمارية غير مبررة قادها تشيني بمساعدة الليكوديين من المحافظين الجدد أنصار إسرائيل. اليوم أزيد على قائمتي المحدودة جداً للذين يستحقون التعليق من أعواد المشانق الخونة، فالأخبار من لبنان محزنة، وكل يوم خبر عن شبكة تجسس جديدة لإسرائيل، من مدنيين الى عسكريين. المدني يخون أهله وجيرانه والشعب كله، والعسكري الذي دخل الجيش ليحمي الوطن من أعدائه، ينتهي وهو عدو أخطر على البلد من أي عدو خارجي مثل إسرائيل أو غيرها. لا أحتاج أن أسجل أسماء متهمين ومعتقلين، فهي كل يوم في الصحف اللبنانية والعربية الأخرى، إما صراحة أو بالحروف الأولى، ولا أريد أن أكرر كلاماً استهلك عن سقوط الولاء والقيم والتشتت والضياع والانحلال وغياب الأخلاق فهذه بديهيات. لبنان ليس في مجاعة، كما سمعنا يوماً عن بيافرا، والمتهم بالخيانة لم يمارسها لأنه يريد أن يعالج زوجة مريضة أو يعلم أطفالاً صغاراً أو يطعمهم. ثم ان الأسماء من كل الطوائف تقريباً، ومن مختلف أنحاء البلاد، وإن كان الجنوبيون أكثر فلأن إسرائيل يهمها جنوب لبنان أكثر من شماله أو شرقه مثلاً. في الحرب العظمى، أي ما عرف بعد ذلك بالحرب العالمية الأولى، شهد لبنان مجاعة هائلة أدت الى نزوح لبنانيين كثيرين الى مصر وفلسطين والغرب (هناك قصيدة جميلة للأخطل الصغير بشارة الخوري عن مأساة امرأة في المجاعة)، ولكن لم نسمع عن خونة. بل ان الشعب انتفض على الدولة العثمانية، وطالب بحريته، وطلع منه شهداء لا نزال نحتفل بذكراهم في لبنان وسورية كل سنة. ماذا دهى هذه الأمة اليوم؟ الفشل العام، من المحيط الى الخليج، ومن البحر حتى شلالات النيل الأبيض، تبعه انهيار فردي، فسقوط الأفراد هو جزء من سقوط المجموع. وكنت قبل موجة جواسيس إسرائيل في لبنان رصدت نموذج «الواطي»، وهي صفة أطلقتها على جماعة بينها الانتهازي الذي يقدم مصلحته على مصلحة والدته إذا اضطر، والعميل الذليل الذي يبحث عمن يقف خادماً على بابه، والمغرور الذي يعيش على امجاد ماضٍ مزور ويعتقد بأنه يستطيع قيادة شعب أو أمة لأن جده كان تاجر خردة مثلاً، أو صرّاف عملة. نموذج «الواطي» سجلته في البداية وأنا أرى عرباً لجأوا الى الغرب يزايدون على أعداء العرب والمسلمين في كتابة مقالات ضد بلادهم، فهي الطريقة الوحيدة لينشر لهم وليقبضوا ثمناً بخساً لدناءة نفوسهم. وتحديت بعضهم أن يكتب ولو على سبيل التجربة شيئاً إيجابياً لأنني كنت واثقاً أن أولياء نعمته من أنصار إسرائيل لن ينشروا له. بعد ذلك جاءت استعدادات إدارة بوش لحرب مجرمة غير مبررة على العراق وأصبح «الواطي» أخطر كثيراً، فهو منشق عراقي، مبعد بعيد، كذب وزوّر وتواطأ كما تريد عصابة الحرب، والنتيجة أن مئات ألوف العراقيين الأبرياء قتلوا لإزاحة ديكتاتور يمثل نظام «الرصاصة الواحدة»، فلو قُتل لسقط نظامه معه ولبقي الناس أحياء. وجدت «الواطي» المتآمر في حرب على بلده (السابق) أخطر كثيراً من «الواطي» الأكاديمي الذي يريد نشر مقال ببضع مئة دولار. والآن جاء الخائن، وهو أخطر من الاثنين وفي مرتبة المنحرف قاتل الطفل وديك تشيني ويستحق الإعدام. توفيت أخت سيف الدولة، ورثى المتنبي «أخت خير أخ وبنت خير أب» وقال: طوى الجزيرة حتى جاءني خبر/ فزعت فيه بآمالي الى الكذب. وقد فزعت بآمالي الى الكذب وأنا أقرأ يوماً بعد يوم أخبار جواسيس إسرائيل في لبنان، وأرجو أن تثبت براءتهم في النهاية لأن سقوطهم من سقوط الأمة. غير انني أدرك أن التجسس حصل وستكون هناك إدانات لكثيرين، وربما تبرئة قليلين. شخصياً، لا أبرئ أو أدين وإنما أقبل قرار المحكمة، وقد تعلمت في الصحافة الغربية أن أقول «القاتل المزعوم» حتى يصدر الحكم بالإدانة أو البراءة، وسأظل أفعل مع الجواسيس المزعومين، وأفزع بآمالي الى الكذب هرباً من الاحتمال الآخر.