كانت فلسطين على مرمى الصوت من قمة عمان التي عُقدت في مركز الملك حسين بن طلال في منطقة البحر الميت في 29 آذار (مارس) الفائت. وكما في كل قمة سابقة يأتي الأقطاب العرب بخطاباتهم التي تبدأ بفلسطين وتنتهي بفلسطين. 70 سنة مرت عُقدت خلالها 28 قمة عربية حتى الأمس القريب. ومنذ ذلك الزمن وفلسطين تصغر مساحة، لكنها تتوسّع انتشاراً، حتى باتت ملء الكرة الأرضية حضوراً سياسياً، ومعنوياً، وجهادياً، عبر أجيالها التي تتوالد خارج وطنها مرددة قسم العودة. لم تختلف قمة عمان عن سابقاتها إلا بالحضور في مقاعد الضيوف– الشهود، حيث كان الأمين العام الجديد للأمم المتحدة البرتغالي أنطونيو غوتيريش الذي حمل إلى القمة «رسالة التسامح التي أرساها الإسلام، مستشهداً بالقرآن الكريم الذي اعتبر أنه ألهم القوانين الحديثة المتعلقة بإغاثة اللاجئين». لكن حضور غوتيريش في قمة عمان كان يستدعي حضور الدكتورة ريما خلف مساعدة الأمين العام للأمم المتحدة والمديرة التنفيذية للجنة الأممالمتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) التي تتخذ بيروت مقرّاً لها وتضم 18 دولة عربية، بينها فلسطين. فهذه السيدة الفلسطينية المولد، الأردنية الهوية، اشتبكت مع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش على خلفية تقرير أعده باحثان أميركيان (ريتشارد فولك وفيرجينيا تيلي) بتكليف من «الإسكوا» عن نظام الفصل العنصري (أبارتهايد) الذي تطبقه إسرائيل في الأراضي المحتلة. كان التقرير الذي استغرق إعداده وقتاً طويلاً مجموعة أبحاث علمية وواقعية أجراها خبيران مشهود لهما بالأمانة الأكاديمية والحياد والحق والحقيقة. فالباحث ريتشارد فولك، أستاذ القانون الدولي في جامعة «بريستون»، وسبق له أن عمل في الأممالمتحدة، وفرجينيا تيلي أستاذة العلوم السياسية في جامعة (ألينوي). وكانت الدكتورة خلف التي راجعت التقرير من موقع المسؤولية والأمانة والشفافية بدرجة أولى، وكفلسطينية- أردنية متعايشة مع شعبها وأهلها في نضالهم الطويل وصمودهم المرير، قد حرصت على أن ترفع التقرير إلى الأمانة العامة للأمم المتحدة، كما هو، بنصوصه الموثقة حرصاً على صدقية الوقائع التي يتضمنها. لذلك كانت الصدمة قوية عليها عندما فوجئت بالأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، المنتخب حديثاً، يطلب منها سحب التقرير، فأدركت أن الرقابة الصهيونية في دوائر الأممالمتحدة تدخّلت وأمرت، لكن الدكتورة خلف رفضت، وكان جوابها الاستقالة. لكن المسألة ليست روتينية. فالرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب أطلّ على القضية الفلسطينية من باب حكومة بنيامين نتانياهو، وقد استبق قمة عمان بتوجيه دعوة إلى العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني، وإلى رئيس منظمة التحرير الفلسطينية محمود عباس لزيارة واشنطن، وبالتأكيد لم تأتِ هذه المبادرة بمعزل عن التشاور المسبق مع نتانياهو، والموعد قريب للزيارتين، ولعلّ الحضور الاستثنائي الذي تمثل في جلسة افتتاح القمة بوجود الأمين العام للأمم المتحدة، والممثلة العليا للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسية والأمنية نائب رئيس المفوضية الأوروبية فيديريكا موغيريني، دليل على وجود خطة ما جاهزة للنقاش في واشنطن. مهما يكن الأمر يبقى الأمل ضئيلاً بنتائج إيجابية للفلسطينيين وسائر العرب الذين اختبروا الرؤساء الأميركيين خلال ثلاثة عقود على الأقل، وكان آخرهم باراك أوباما الذي بدأ عهده بوعد «حل الدولتين» وانتهى بكوارث الحروب العربية التي اشتعلت في مطلع السنة الثانية من ولايته، وقد تهاوت أنظمة عسكرية على أنقاض مدن التاريخ والحضارات، واندثرت شعوب كانت تأمل بانفراجات تخرجها من عقود البؤس إلى مدارج الحياة الآمنة، فإذا هي موزعة حالياً في أصقاع الأرض تبحث عن مستقبل لأجيالها الهاربة من الموت والدمار إلى أي بلاد تتوسم فيها العيش بأمان واحترام. قد يلاحظ المدققون في نص «إعلان عمان» الصادر عن القمة العربية أن الأقطاب العرب ركزوا جهودهم وقراراتهم على قضية فلسطين وشعبها، لأن الكارثة الفلسطينية عبر تاريخها الطويل كانت، وهي مستمرة، من صنع دولة الاحتلال الإسرائيلي وحماتها من دول الغرب، وعلى رأسها في كل عهد وزمن الولاياتالمتحدة الأميركية. ومن عجائب الزمن في الكارثة العربية المتفجرة منذ سبع سنوات، أن الولاياتالمتحدة الأميركية كانت في طليعة الدول الكبرى المتطوعة لإنقاذ شعب سورية، وشعب العراق، وشعب ليبيا، وشعب اليمن، من طغيان أنظمتها ومن نيران جيوشها وأساطيلها، وكأن أميركا تحولت بعثة سلام وإنعاش ودعم لتلك الشعوب المنكوبة بحكامها، وها إن إدارة دونالد ترامب تقرّر الخروج العسكري من مغطس الدم السوري تاركة لمن بقي من شعب سورية تسوية الأزمة مع رئيس النظام، على أن تنصرف إدارتها المدنية إلى الدفع «من أجل تسوية سياسية». وفي هذا الوقت يعلن الممثل الأممي (السياسي) ستيفان دي ميستورا عزمه على التقاعد، تاركاً مهمته لموظف دولي آخر يتولى النقاش مع وفد النظام على تسوية سياسية، وفي الوقت عينه تذكّر المؤسسة الدولية بأن النزوح السوري بلغ رقم الخمسة ملايين، وأبواب الخروج مفتوحة أمام من يجد إليه سبيلاً. لقد سبق للولايات الولاياتالمتحدة الأميركية في أواخر عهد رئيسها السابق باراك أوباما أن سجلت مأثرة مذهلة لمصلحة عرب فلسطين ضد إسرائيل المغتصبة المحتلة. ففي أواخر كانون الأول (ديسمبر) الماضي اتخذ مجلس الأمن الدولي قراراً استثنائياً يدين إسرائيل على ما ترتكب من جرائم حرب بحق الفلسطينيين، وجرائم استيلاء على أراضيهم، وتحويلها مستوطنات، وقد كانت الإدارة الأميركية في طليعة مؤيدي القرار. بل إن وزير الخارجية الأميركي السابق والشهير جون كيري وجّه «صفعة مميزة» إلى حكومة نتانياهو، وحذرها بلهجة مشددة من أن «أجندة المستوطنين» تقوّض عملية السلام وتهدد مستقبل إسرائيل». وأكثر من ذلك، إن الوزير جون كيري الذي لم تغب صورته بعد عن يوميات جنيف والمؤتمرات الدولية التي تُعقد لمحاصرة حرب سورية ووضع حد لها، ندّد بشدة بموقف إسرائيل السلبي من مشروع «حل الدولتين»، الذي طرحه باراك أوباما في بداية عهده قبل ثماني سنوات. ولعلّ أوباما هو الذي أوعز إلى وزيره باتخاذ ذلك الموقف كرسالة اعتذار متأخرة إلى العالم العربي قبل أن يسلّم مفاتيح البيت الأبيض إلى دونالد ترامب، فهو أعاد إلى الذاكرة التزامه السلام في العالم العربي والشرق الأوسط، بدءاً من الاعتراف بحدود العام 1967، مع تبادل أراض، وإعلان القدس عاصمة للدولتين الفلسطينية والإسرائيلية، وإطلاق حرية الوصول إلى الأماكن المقدسة لجميع العرب واليهود، ثم إعلان نهاية الصراع المزمن، وتطبيع العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل على قاعدة مبادرة السلام العربية في الأصل. ذلك التصريح المذهل الذي أدلى به جون كيري نيابة عن الرئيس باراك أوباما، تعبيراً عن رؤيته التي لم يعلنها للعالم العربي وهو في سدة البيت الأبيض، تصدّى له الرئيس الجديد دونالد ترامب بجملة مختصرة على (تويتر) قائلاً له: «لا يمكن الاستمرار في التعامل مع إسرائيل بازدراء وعدم احترام»! ولم تكن إسرائيل غائبة عن السمع أو متابعة ما يدور بين رئيس ديموقراطي ذاهب ورئيس جمهوري حاضر، فقد بادر نتانياهو فوراً في الأسبوع الأول من شهر شباط (فبراير) الماضي إلى البدء بتنفيذ قانون تشريع الاستيطان. وفي الوقت ذاته وجّه المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية أمام المحكمة العليا تنبيهاً مباشراً إلى نتانياهو فحواه: إن قانون الاستيطان ليس «دستورياً» بل إنه يعارض القانون الدولي والقانون الداخلي لإسرائيل وإن استمرار العمل بموجبه سوف يجرّ المسؤولين الإسرائيليين، من السلكين المدني والعسكري، إلى المحكمة الدولية في لاهاي!... هكذا تمضي دولة الاحتلال والاغتصاب والتمييز العنصري في قضمها فلسطين، بدءاً من تاريخ ذلك «الوعد» الذي قطعه اللورد البريطاني «بلفور» للشعب اليهودي بوطن في فلسطين. وهو وعد ممن لا يملك لمن ليس له حق. حدث ذلك في 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 1917 وها إن العالم العربي، وقلبه فلسطين، في السنة المئوية الأولى من وعد بلفور. وها هي موظفة عربية فلسطينية أممية اسمها ريما خلف تٌلقي قنبلتها الوثائقية للتاريخ العربي، والعالمي الآتي، مع التنبيه والتحذير: هناك خطة محكمة للوصول إلى حالة فصل عنصري بين العربي الفلسطيني من جهة والإسرائيلي اليهودي من جهة أخرى. ويُفهم من هذا التنبيه- التحذير أن اليهودي الصهيوني يعمل منذ قرن، على الأقل، لتصفية الوجود الفلسطيني في وطنه وأرضه، لتتحول فلسطين مستعمرة صهيونية في قلب العالم العربي يتقاطر إليها اليهود من كل أنحاء الأرض بحماية دولية، من قرب، ومن بُعد!... أليس هذا وعد «بلفور» منذ مئة سنة، مجيّراً إلى الصهيوني العنصري بنيامين نتانياهو ليقول له: «بيبي... هذا وقتك ودورك؟! * كاتب وصحافي لبناني.