لم أكن أسمع بهذا المهرجان، لولا الدعوة التي تلقيتها للمشاركة فيه. بحثت قليلاً عبر الإنترنت، ليباغتني اسم أورهان باموك كأول ضيف شرف للدورة الأولى للمهرجان، وأقرأ عن أسماء مشاركين آخرين من كتّاب عرب وغربيين من أنحاء العالم. ولأن الثقافة هاجسي، والاطّلاع على الآخر ثقافياً متمّم لهاجسي ذاته، فلم أتردد لحظة عن تلبية الدعوة، بعد استيعابي المبدئي لفكرة المهرجان. هذا هو العالم الذي أحب، العالم المفتوح على الآخرين: كاتبات وكتّاب من دول العالم، يلتقون في مهرجان واحد، لا تنظّمه دوائر ومؤسسات حكومية، بل مجموعة أفراد ومؤسسات مجتمع مدني تهتم بالثقافة. مهرجان القاهرة الأدبي. شخصان فقط، يتحملان عبء التنظيم واختيار الضيوف وأمكنة النشاطات، محمد البعلي صاحب دار صفصافة، والروائي أحمد شوقي علي. يساعدهما بعض المتطوعين الذين يختلفون من دورة لأخرى. هذه الدورة الثالثة للمهرجان، أتفرج على صور النشاطات السابقة، فيقفز قلبي من الفرح، وأنا أقرأ وأشاهد عن أمكنة في القاهرة القديمة، القاهرة التي أحب، فتتاح لي فرصة التعرّف على تلك القاهرة، التي لا أريد الذهاب إليها بعين سائحة قادمة من أوروبا، بل بعيون أبنائها وبناتها الذين سأكون بينهم طيلة الوقت. سيكون الافتتاح في بيت السحيمي، في القاهرة الفاطمية، وسأتفرج على المكان، وأنا أسير من الغورية، صوب الخليلي، أتمشى قليلاً قبل موعد الندوة الافتتاحية، لأدخل ذلك البيت القديم، وتدور بي الأرض، كأنني في بيوت حلب القديمة، حيث كانت المدينة تستقبل النشاطات الأدبية في حاراتها القديمة، كبيت الشيباني مثلاً. لا أزعم أنني كاتبة معروفة، وأنني شاركت ببعض الندوات في البلاد العربية والغربية، بحكم إقامتي في أوروبا، ولكنها لم تكن المرة الأولى التي أصعد فيها إلى المنصّة للكلام عن الأدب، وفي الوقت نفسه كانت المرة الأولى التي أتحدث فيها داخل بيت قديم، أنظر حولي إلى الحاضرين، كأنهم كتلة من عائلة أو أهل، تجمّعوا في حفل أو مناسبة تخص العائلة. افتتح المهرجان الذي حمل تيمة: المرأة حبر الكتابة وروحها، لنكسر، صديقتي الروائية منصورة عز الدين، وأنا، كليشيهات الأدب النسوي التي تثير حنقنا. ورحنا نمارس تجريبيتنا في طرح أفكارنا حول أدب المرأة، محاولتين عدم الوقوع في الكليشيه، وعدم الوقوع في نبذ كتابة المرأة في الوقت نفسه. لم نكن قد تحاورنا من قبل، منصورة وأنا في هذه التيمات، وفوجئت كل منا، بأننا كنا متفقات في أغلب تفاصيل اكتشافنا لخصوصية كتابة كل منّا، كامرأة وكاتبة معاً، من دون تقديم صفة أو تأخير الأخرى: حين تكتب المرأة نصّاً لا موازياً لنص الرجل، ولا أقل، ولا أدنى، نصٌ قائمٌ بذاته، لا يعاني من خلل المظلومية التاريخية وفرض قبول النص لأن صاحبته امرأة، كنوع من التمييز السلبي الذي اتفقنا على وصفه، مع اعتذاري للصديقة منصورة، بانفرادي بهذه المادة التي تحمل وجهة نظري فقط. أن نتحدث عن اكتشاف الخبرات، بين الانتقال من الريف للمدينة عبر تجربة منصورة، والانتقال من حلب إلى باريس عبر تجربتي، وندخل في تفاصيل اكتشاف الجسد بوصفه تجربة استثنائية تضيف للنص الإبداعي، بتدرجات وجودية لهذا الاكتشاف، بينما تمتزج أصواتنا بصوت أم كلثوم تغني من المقهى الملاصق للدار، هو أمر ساحرٌ بالنسبة إلي، ككاتبة قادمة من ثقافة تحرص على الندوات في الجامعات والمباني المغلقة، المحكمة الصمت، كأن الكتابة طقس ديني لا يجب أن يختلط بغيرها من مؤثرات. كنت أشم روائح تبغ النارجيلة، وأحاول الإصغاء لأصوات المارّة قرب الدار، حتى وإن كان المدخل بعيداً عني، لكن أم كلثوم كانت بحنانها وبحّة آلام الحب التي تطلقها، مع اختلاط هذه الأصوات بصوت المؤذن ينادي لصلاة العشاء بغتة... أمرٌ جعلني أسبح في بحر من الأصوات والروائح، لتتحول الكتابة إلى جنيّة تتنقّل بحريّة من المقهى إلى الشارع إلى المنصّة إلى الميكرفون إلى صوت المؤذن إلى اختلاط العالم. سننزل بعد انتهاء الندوة، لنتجه غالبيتنا، الكتّاب والكاتبات بخاصة، المتواجدون في البيت، بيت السحاري، لتناول الشاي في المقهى المقابل: كيم آنكل الكندية، مينيكة شيبر الهولندية، منصورة عز الدين المصرية، أحمد شوقي علي المصري، العازف الألماني توبياس روجير، عبد الرحيم المترجم القادم من الإسكندرية، وأنا السورية، برفقة أصدقاء كتّاب وشعراء ونقاد ، من مصريين وسوريين. سنعبث باللغة، وستختبر الكندية والهولندية علاقتهما بالعربية، لنفتح ندوة جديدة حول اللهجات، وعلاقة النص المُترجم باللهجات، وتحوير اللهجة إلى العربية الفصحى، وندخل في سجالات تطول، كأننا في ندوة مفتوحة، يساهم فيها المتداخلون من باعة متجولين يعرضون علينا بضائعهم وصبية المقهى وتقنيو الأراجيل. سأسمع نصّاً مترجماً عن الألمانية، فأقول لنفسي: هذه الكاتبة تشبهني، كأنهم يقرأون نصّاً كتبته أنا ذات يوم. وستأتي كاتبات من بريطانيا وأميركا والتشيك وسلوفينيا وألمانيا والنمسا وهولندا وسوريا والكويت، وكتّاب من تركيا وسلوفاكيا والعراق، وستختلط كل هذه النصوص والأصوات في القاهرة، في بيوت تاريخية وأمكنة معاصرة عدة. سأتناول طعام الفطور، لمدة خمسة أيام، برفقة مينيكه شيبر، لتتحول جلسات الفطور، إلى ندوات ثنائية، حول الثقافات، حول الكتابة في هولندا وفرنسا وسوريا ... وسنسبح جميعاً في بحر الثقافة المختلطة، المتعددة العوالم، المليئة بالثراء. ثم أتحول إلى مترجمة ومرافقة وصديقة لمينيكة، فنتنقّل معاً في القاهرة، ونتعرف معاً على أكلات محل القزاز وشوربة العدس والفلافل( الطعمية) وستشاركني شغف الجلسات في المقاهي الشعبية، في التكعيبة، قرب مسرح روابط. سأتخوف من المشاركة، لأول مرة، في قراءة سردية إلى جوار شاعرتين، وأخشى من هيمنة الشعر وجمهوره، على هدوء السرد... فأرتبك بداية، وثم أندمج مع راوياتي متحدثات عن مقهى شهرزاد... ثم أشعر أننا كنا متساويات، شاعرتان صديقتان، إيمان مرسال ورشا عمران، وأنا الروائية. سندخل إلى مكتبة القاهرة الكبرى، وسيشرح لنا خالد الخميسي، لكيم آكلين وأنا، تاريخ المكتبة الساحر، وتشهق كيم مندهشة من جمال المكتبة - القصر. نتجول في المكتبة برفقة أحد العاملين فيها، نتفرج على الكتب، والساحة الكبيرة التي تخيلتها مكاناً صالحاً لحفل موسيقي كبير. ستكون ندوة المكتبة باللغة الإنكليزية التي لا أجيدها، غير مترجمة إلى العربية. سيبكي زميلي السلوفاكي، وسأعترف على المنصة، بأنني كنت أتماسك لأنني أعتبر بكائي، ككاتبة سورية تضطر دائماً للإتيان بالحرب في حديثها، هو نقطة ضعف، أراحني من الحكم عليها، جوزيف بناش. سأكتشف أنني جزء من هذا العالم الكبير، وأن هؤلاء الكتاب يتقاطعون معي في هموم كثيرة، وأننا على مدى أسبوع تحدثنا كثيراً، من دون أن نشعر أننا قادمون من بلاد مختلفة. كأننا أبناء بلد واحد: بلد الكتابة.