عشية انصرام ثلاثين عاماً على انطلاق «معرض الشارقة الدولي للكتاب» بدت الدورة التاسعة والعشرون كأنها مقدمة للدورة المقبلة التي ستحتفي بالذكرى الثلاثين لإنشاء هذا المعرض الذي يعد الأعرق خليجياً. والأعوام التي توالت على معرض الشارقة زادته رسوخاً حتى أضحى موعده كل سنة مناسبة للاحتفال بالكتاب العربي على اختلاف مصادره وأنواعه. وقد أشار حاكم الشارقة سلطان بن محمد القاسمي في كلمة الافتتاح الى أن الدورة الثلاثين من المعرض ستكون فرصة لتقديم ما سمّاه «كشف حساب» من خلال كتاب يتناول تجربة المعرض، «التجربة الصافية والبعيدة من أي أغراض شخصية أو إقليمية أو أغراض انتمائية الى أي جهة من الجهات». وقال إن عنوان الكتاب سيكون «كشف الحساب في تنوير الألباب». لم يفقد معرض الشارقة الجو الحميم الذي طالما تميّز به لا سيما خلال الأعوام التي كان يديره فيها الكاتب والمثقف السوداني يوسف عيدابي. أحيل عيدابي الى التقاعد بعد تلك الأعوام وحلّ محلّه أحمد العامري مديراً للمعرض، وهو من الجيل الشاب الذي يملك أحلاماً كبيرة ويسعى الى تحقيقها ولو بتؤدة. أما أبرز الملامح التي حملها المعرض في دورته الجديدة فتمثل في ضخامة البرنامج المرافق للمعرض بأيامه الاثني عشر (ينتهي المعرض في 6 الشهر الجاري) وقد ضم نحو مئتي نشاط بين ندوات وأمسيات ولقاءات ومحاضرات وعروض مسرحية وسواها. وقد برز هذه السنة «المقهى الثقافي» الذي يستضيف لقاءات صغيرة وأليفة، يتحدث فيها الكتّاب والصحافيون والفنانون ويشاركهم جمهور يحل ضيفاً على فنجان قهوة أو شاي. وهذه المقاهي وعددها أربعة أضفت على المعرض طابعاً فريداً واحتلّت الهامش جاعلة منه حيزاً مهماً. ولعل اللقاءات التي تمت في المقاهي بدت أشد إلفة من الندوات والمحاضرات حتى وإن كان جمهورها عابراً في أحيان. يصعب على زائر المعرض إحصاء الأنشطة التي تصخب بها القاعات والصالات، خصوصاً أن هذه الأنشطة تتم في حالٍ من التوازي: أربعة لقاءات في أربعة مقاهٍ، ندوة هنا وأخرى هناك وأخرى هنالك، محاضرة هنا ومسرحية هناك وقراءة وأمسية وحفلة توقيع... قد يحار الزائر أي زاوية يقصد لكن عليه أن يختار وكل زائر يختار ما يحلو له. ويدرك هذا الزائر أن من المستحيل متابعة كل ما يحصل. وهذه «الزحمة» في الأنشطة أفقدت بعض اللقاءات أو الندوات جمهورها فكان التأجيل حلاً ملائماً. مئتا نشاط خلال اثني عشر يوماً واثنتي عشرة ليلة، أي جمهور يستطيع أن يواكب هذه الأنشطة. ومع ذلك بدت الظاهرة جميلة، فالصخب ضروري في أحيان وإن لم يؤتِ ثماراً. هكذا بدا المعرض أشبه ب «خلية» نحل، جيل من الشباب آخذ على عاتقه مهمة التنظيم والتنسيق، يعمل ليل نهار بحماسة شديدة غير آبه لتعب أو إرهاق. كان جمهور المعرض وزائروه العرب يتمنون لو أن المعرض كرّم المدير السابق يوسف عيدابي، فهذا الرجل الديناميكي كان يستحق مثل هذا التكريم، خصوصاً أن المدير الجديد للمعرض باشر في إحداث حال من التغيير أو التحديث بادئاً عهداً جديداً لهذا المعرض العريق. لم تقتصر الضخامة على الأنشطة فقط، بل هي شملت أيضاً المعرض نفسه الذي فتح أبوابه أمام أكثر من ستمئة ناشر ودار للنشر ناهيك عن المكتبات والمراكز الرسمية والأجنبية. الناشرون العرب ينتظرون هذا المعرض سنوياً لأنه الأكثر انفتاحاً ورحابة. لا رقابة معلنة فيه، ولا ضغوط تمارس على الناشرين بل هم يحظون بالكثير من «التسهيلات» التي تريحهم. نادراً ما تجد ناشراً يرفع شكوى أو يتأفف أو يتذمّر. لقد أصبح معرض الشارقة «بيتاً» لهم مثلما أضحى «سوقاً» لكتبهم. فالجمهور هنا يشتري ولا يقلّب العناوين والصحف. ويفاجأ الزائر عندما يرى أعداداً من الزائرين يجرّون عربات صغيرة مثل تلك التي يجرّونها في «المولات» أو «السوبر ماركت» لكنها ملأى بالكتب وفي أحيان يجرّ الأطفال عربات تحمل كتبهم. هذا مشهد جميل ومطمئن ولكن لا أحد يعلم كيف ولا الى أي حد. هل سيقرأ الجمهور هذه الكتب التي يبتاعها في بلد يشجع على القراءة ويبذل في سبيلها الكثير، جهداً ودعماً؟ واللافت أن الدول العربية التي تتغيب عن المعرض قليلة وقليلة جداً. ربما هي بلدان الأطراف البعيدة. طبعاً الصومال لا يحضر كعادته في كل المعارض لكن الكاتب الصومالي الكبير نور الدين فارح حاضر بشدة من خلال رواياته المترجمة الى العربية. وكذلك موريتان يا وجزر القمر وسواها. أما الدول الأخرى فكلها حاضرة بلا استثناء وبعضها حاضر بقوة. حتى الدول «الشقيقة» حاضرة: إيران، الهند، أندونيسا، باكستان وسواها. وأجنحة هذه الدول لها جمهورها الخاص وقراؤها وليسوا قلّة ويمكن مشاهدتهم يقلبون صفحات الكتب أو يحملونها. واللافت أيضاً التقاء المشرق والمغرب، أفريقيا وآسيا في معرض الشارقة القائم على أرض الخليج. إنها الخريطة الجغرافية العربية ترسمها الكتب والعناوين. ولعل هذا ما يجعل من المعرض مناسبة لمتابعة أبرز العناوين الجديدة في العالم العربي. ولئن كان معرض الشارقة في أحد وجوهه حيزاً للنشر وهمومه وللناشرين وقضاياهم من خلال اللقاءات والندوات التي يعقدونها وكانت كثيرة هذه السنة، فهو أيضاً منبر إماراتي وخليجي وعربي لإطلاق الكتب الجديدة. وهذه السنة قدّم حاكم الشارقة سلطان القاسمي كتابه الجديد وعنوانه «حديث الذاكرة - الجزء الأول» وهو يركز على محاور ثلاثة رئيسة في حياته ومساره: الأول يدور حول شؤون الشارقة، والثاني حول شؤون دولة الإمارات والثالث حول مفهومه للأمة العربية والإسلامية وكيفية النهوض بها وتحفيزها على تخطي مشكلاتها وأزماتها. وكتب الشاعر يوسف أبو لوز في جريدة «الخليج» عن الكتاب قائلاً: «تستقبل الساحة الإماراتية في هذه الدورة من معرض الشارقة «حديث الذاكرة» وفق بناء مرجعي وثائقي متخصص، ووفق ذاكرة صادقة أمينة لكاتب وباحث ومؤرخ يمتلك ضمير المؤلف الحي الذي لا يعرف إلا ضرورة واحدة هي البحث عن الحقيقة، ثم مراجعة هذه الحقيقة والتأكد منها». أما الباحث والروائي المصري يوسف زيدان فانتهز الندوة التي خصصت له للإعلان عن صدور رواية جديدة له بعنوان «النبطي»، لكنه رفض الكلام عنها مباشرة، وتوقف عند مفهومه للعلاقة بين التاريخ والأدب مستشهداً ببعض القصص التراثية، وأشار الى أن التاريخ غالباً ما ارتبط بالمنتصرين، أما الروائي في سرده التاريخي فهو يعاود النظر في معطيات التاريخ ويعيد كتابته من وجهة الضحايا أو المظلومين والمهزومين. الناقد جابر عصفور قدّم في ندوة الكتب الجديدة المترجمة الى العربية والصادرة عن المركز القومي للترجمة في القاهرة الذي يرأسه وتحدّث عن هذا المشروع، كيف بدأ وأين أصبح وهو يكاد يبلغ الكتاب الرقم ألفين في لائحة الكتب المترجمة. الشاعر اللبناني زاهي وهبي أحيا أمسية شعرية وقدّم خلالها ديوانه الجديد «كيف نجوت»، وقرأ مختارات من قصائده... وثمة أسماء أخرى أطلّت بأعمالها الجديدة، تقديماً وتوقيعاً، وأخرى ستطل في الأيام الأخيرة للمعرض ومنها: الكاتب المصري محمد سلماوي، رئيس اتحاد الكتّاب المصريين ويقدمه الشاعر حبيب الصايغ، والصحافي عبدالباري عطوان وسواهما. وكان أعضاء محترف الرواية الذي نظمته جائزة «بوكر» العربية في أبو ظبي عقدوا لقاء في أحد المقاهي الثقافية، قدّموا فيه أبعاد المحترف الروائي وتحدث فيه الروائي اللبناني جبور الدويهي والروائية المصرية منصورة عز الدين والقاص والروائي الإماراتي ناصر الظاهري. وبينما سرت إشاعة حول إمكان تعليق معرض أبو ظبي للكتاب الذي يقام السنة المقبلة اتفاقه مع معرض فرانكفورت للكتاب الذي يشرف على تنظيمه، حلّ مدير معرض فرانكفورت بيتر ويتهاوس ضيفاً على معرض الشارقة وفي «دردشة» مع الصحافيين أشار الى أن معرض الشارقة اصبح علامة فارقة في معارض الكتب العربية. وتحدث عن تنامي الحضور العربي في معرض فرانكفورت المخصص اساساً لعقد الصفقات وتوقيع العقود بين الناشرين وبين الكتّاب والمترجمين، وقال إن هذا المعرض العالمي شهد في دورته الأخيرة توقيع عقود مميزة مع مؤسسات ودور نشر عربية لشراء حقوق الترجمة والنشر. ورأى أن أوروبا باتت تهتم كثيراً بالأدب العربي أما عالم الأطفال فلم يغب عن المعرض لا كتباً ولا مسرحاً ولا رسماً... وبدا واضحاً أن أدب الطفل يحظى باهتمام خاص في معرض الشارقة، فالدور المعنية بهذا الأدب كانت كثيرة، ناهيك عن المؤسسات الرسمية نفسها، وقدّمت جميعها سلاسل وكتباً جميلة شكلاً ومفيدة مضموناً. والكثير من هذه الكتب ترجم عن لغات أجنبية. وأقيمت في بعض قاعات المعرض محترفات الأطفال، مسرحية وفنية، إضافة الى مسرح بني في الهواء الطلق وشهد عروضاً كثيرة. ولم يغب «الحكواتية» عن لقاءات الأطفال وصبحياتهم وأمسياتهم، وراحوا يقرأون لجمهورهم قصصاً ويسردون له حكايات. «في حب الكلمة المقروءة» هو شعار المهرجان الذي احتل لوحات المعرض والجدران والواجهات، لكنه ارتفع أيضاً على الطرق والأعمدة مكتوباً على لوحات توزعت وسع مدينة الشارقة. إنه حب الكلمة حقاً الذي لا بد منه، هذا الحب الذي يجب أن ينمو في النفوس مثل حبة خردل فينبت ويصبح شجرة، هي شجرة الكلمة والكتاب.