شهدت المختارة أمس، حشداً هائلاً غير مسبوق في الذكرى السنوية الأربعين لاغتيال كمال جنبلاط مؤسس «الحزب التقدمي الاشتراكي» و«الحركة الوطنية اللبنانية». وانطوت الذكرى على رسائل سياسية عدة إن بفعل الحضور الشعبي أو السياسي أو في المواقف السياسية التي أعلنها النائب وليد جنبلاط والشعارات التي تخللت الاحتفال الاستثنائي. وقال قياديون من الحزب «التقدمي الاشتراكي» ل «الحياة» إن حشد الأمس كان أكبر من ذلك الذي جرى في المختارة عام 2004 عندما استنفر مناصرو جنبلاط بأعداد كبيرة له تضامناً معه في صراعه مع الرئيس السابق آنذاك إميل لحود الذي كان معارضاً للتمديد له وفي مواجهة النفوذ السوري. واحتشد في حينها 50 ألف شخص في المختارة. وذكر هؤلاء أن حشود الأمس فاقت ال70 ألف شخص وفق تقديرات الأجهزة الأمنية، حيث زحف مناصرو الاشتراكي من الشوف وعاليه والمتن الأعلى (قضاء بعبدا) وحاصبيا وراشيا. وغصت الطرق المؤدية إلى عرين آلِ جنبلاط بالناس بعد توجيه دعوة عامة للمشاركة في الذكرى، فامتلأت بهم الطرقات لمسافة كيلومترات وساروا مشياً على الأقدام ليتمكنوا من الوصول، واضطرت الباصات التي أقلتهم من القرى والبلدات إلى التوقف في قرى قريبة ليكمل ركابها سيراً إلى المختارة ولم يسمح إلا لسيارات الشخصيات والديبلوماسيين ورجال الإعلام بسلوك الطرق إليها. ومع ذلك شق هؤلاء الطريق بصعوبة. وقال منظمو المهرجان إن بعض الوفود الشعبية تحسّب للازدحام فجاؤوا على الأقدام من القرى، بينما حضر بعض المناصرين خلال ليل السبت - الأحد ونصبوا خيماً ناموا فيها في محيط البلدة. وعند مدخل القصر الذي امتلأ بالناس دخلت الشخصيات المدعوة بصعوبة وبمساعدة شباب الاشتراكي. ولم يقتصر الحشد على المناصرين من الدروز بل كان حضور القرى والعائلات المسيحية المصنفة تاريخياً وتقليدياً جنبلاطية بارزاً جداً. ولم تتمكن لجان الانضباط من الحؤول دون دخول بعض المناصرين إلى القصر الذي غصت صالوناته وباحاته بالمواطنين شباناً وكبار سن اصطحب بعضهم أطفاله الذين جاؤوا «للسلام على البك» واختلطوا بالسفراء والنواب... ووزع مناصرو جنبلاط على الحضور وروداً حمراً ليضعوها على ضريح كمال جنبلاط عندما يحين أوان النزول إليه. وامتلأت طرق الشوف برجال الأمن والجيش، وبمئات اللافتات التي ذكر عدد كبير منها ببرنامج الحركة الوطنية وبأقوال لكمال جنبلاط ومنها: الطائف ضمانة الاستقرار والاستمرار، نعم لإلغاء الطائفية السياسية، ويبقى برنامج الحركة الوطنية عنواناً للتغيير، المصالحة خيارنا والحفاظ عليها قرارنا، كمال جنبلاط يبقى فينا وينتصر، كمال جنبلاط شهيد العروبة وفلسطين، لا للسجن الكبير. وبدا لافتاً ما كتب على إحدى اللافتات: «نحن موجودون هنا وسنبقى» إذ إن هذا الكلام قاله تيمور في أول موقف سياسي علني له. ورفعت إلى جانبها صور لجنبلاط ووالده بالكوفية الفلسطينيية، ولنجليه تيمور وأصلان وأعلام لبنان والحزب التقدمي الاشتراكي والعلم الدرزي. وعمّت اللافتات التي تؤكد المصالحة في قضاءي الشوف وعاليه. استقبال الحريري وتنقل جنبلاط في ردهات القصر ليلقي السلام على الحضور. وعلت الهتافات باسمه وأهازيج النسوة حين انتقل مع ضيوفه إلى ضريح والده لبدء الاحتفال. واستغرق بلوغ الضريح على مسافة 100 متر أكثر من ربع ساعة بين الحشد. مفاجأة الحضور السياسي كانت حضور رئيس الحكومة سعد الحريري الذي اعتبر غير مراقب أنها اشارة سياسية إلى عمق تحالفه مع جنبلاط سياسياً وانتخابياً في هذه الظروف الدقيقة في لبنان. ووضع الحريري الكوفية الفلسطينية فور وصوله إلى القصر وكان الحريري الذي وصل بطائرة هليكوبتر إلى مدرج في بعدران القريبة من المختارة، خصّه الحشود باستقبال خاص وهتفوا له: «أهلاً وسهلاً بالوفي ابن الوفي في دارة المختارة، رحم الله والدك الشهيد الرئيس رفيق الحريري». ولم يكن حضور وفد من «حزب الله» ضم الوزير حسين الحج حسن والنائب حسن فضل الله، اللذين جلسا إلى يمين جنبلاط فيما الحريري إلى يساره، فيما جلس ممثل الرئيس بري النائب علي بزي إلى يسار الحريري بلا مغزى. واعتبر أكثر من مراقب أن مشهد الفرقاء الأربعة جنباً إلى جنب له رمزيته خصوصاً أنها المرة الأولى التي يوفد «حزب الله» ممثلين عنه إلى احتفال جنبلاطي من هذا النوع، فيما جلس ممثل الرئيس ميشال عون المستشار جان عزيز على مقعد قريب من وفد الحزب. وحضر ممثلون عن الأحزاب والقوى السياسية اللبنانية. ولم يحضر رئيس «الحزب الديموقراطي» وزير المهجرين طلال إرسلان الذي كان اتصل بجنبلاط قبل يومين للمناسبة. وإضافة إلى السياسيين اللبنانيين، حضر عدد كبير من السفراء العرب والأجانب يتقدمهم سفراء الإمارات، الكويت، سلطنة عمان، قطر، اليمن، السودان والقائم بالأعمال السعودي والقائم بالأعمال المصري والسفير الفلسطيني على رأس وفد من ممثلي الفصائل. إضافة إلى سفراء فرنسا، روسيا، القائم بالأعمال الأميركي، القائم بالأعمال الصيني، القائم بالأعمال اليوناني وسفراء ايطاليا، بلجيكا، النروج، السويد وممثل عن المنسقة الخاصة للأمم المتحدة في لبنان سيغريد كاغ لوجودها خارج لبنان. كوفية تيمور وكان عشرات الأولوف من المحتشدين على موعد مع مشهدية إلباس رئيس الحزب النائب وليد جنبلاط كوفية دار المختارة لنجله تيمور كرمز لفلسطين، بعد أن خرج عن التقليد التاريخي يوم ألبسه شيخ عقل طائفة الموحّدين الدروز محمد أبو شقرا عباءة الزعامة الجنبلاطية بعد اغتيال الزعيم كمال جنبلاط في 16 آذار 1978 خلال تشييع جثمان والده ورفيقيه فوزي شديد وحافظ الغصيني وهو محاط بكبار مشايخ الطائفة. وألبس جنبلاط الكوفية لابنه على وقع هتافات الحشود: «بالروح بالدم نفديك يا تيمور»، وذلك بعد أن تلا خطاباً فاجأ الجميع خلافاً لكل التوقعات إذ أعطاه بعداً قومياً وعربياً وإسلامياً وحدد المسار في اتجاه فلسطين. ثم أُطلق النشيد الفلسطيني «موطني» الذي كتب كلماته الشاعر ابراهيم طوقان عام 1934. وتوقف الحضور أمام كلمة جنبلاط التي ردد فيها مرات عبارة أدفنوا موتاكم وانهضوا، وتشديده على المصالحة والحوار ناصحاً نجله تيمور بسلوكهما. وخرج البعض بانطباع أن جنبلاط ألقى خطاباً وداعياً باستعراضه السنوات الأربعين السابقة ثم بإلباسه تيمور الكوفية الفلسطينية. ولاحظ قياديون اشتراكيون أن جنبلاط تسلم الزعامة بالدم ويسلمها لنجله بالسلم وبالإصرار على الحوار مذكرا بالكلفة الباهظة للحرب. «ادفنوا موتاكم وانهضوا» وقال جنبلاط في كلمته أمام الحشود: «منذ 40 عاماً وفي 16 آذار (مارس) وقفنا في ساحة الدار وحبسنا الدمعة وكتمنا الحزن ورفعنا التحدي وكان شعارنا «ادفنوا موتاكم وانهضوا» ومنذ 40 عاماً وبفضل ثقتكم وإخلاصكم وتضحياتكم قدنا السفينة سوياً وسط الأمواج والعواصف، وسط التحديات والتسويات، وسط التقلبات والمفاجآت، ندفن الشهيد تلو الشهيد، نودع الرفيق تلو الرفيق، ونبكي الصديق تلو الصديق، ادفنوا موتاكم وانهضوا». وأضاف: «رافقتموني واحتضنتموني فاستشهد من استشهد، واغتيل من اغتيل، وغاب من غاب، لكن بقي الحزن واحداً موحداً، شامخاً معززاً، عالياً مكرماً، ادفنوا موتاكم وانهضموا». وشدد على أنه «منذ 40 عاماً سار معي ثوار 58 ورافقتني العمامة البيضاء في أصعب الظروف ووقف الرجال الرجال في الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية وقفوا معنا وقاتلوا معنا واستشهدوا معنا، ادفنوا موتاكم وانهضوا». وأكد أن «لولا جيش التحرير الشعبي – قوات الشهيد كمال جنبلاط، لما كنا اليوم وبعد اربعين عاماً هنا في المختارة في هذا الدار، ادفنوا موتاكم وانهضوا». وقال: «على مدى 40 عاماً، محطات ناصعة البياض لا خجل منها ولا تردد سطرناها بالدم مع رفاقنا الوطنيين، كل الوطنيين، والاسلاميين، كل الاسلاميين، والسوريين في إسقاط 17 أيار (مايو) وفي التصدي للعدوان الإسرائيلي وفي الدفاع عن عروبة لبنان». ولفت إلى أنه «منذ 40 عاماً وقع الشرخ الكبير، وقعت الجريمة الكبرى بحق الشراكة والوحدة الوطنية، وسرت آنذاك مع الشيخ الجليل نحاول وأد الفتنة، نجحنا هنا وفشلنا هناك، لكن الشر كان وقع، فكان قدري أن أحمل على كتفي عباءة ملطخة بالدم، دم المعلم كمال جنبلاط ورفيقيه حافظ وفوزي، ودم الأبرياء الذين سقطوا غدراً في ذلك النهار الاسود المشؤوم، ادفنوا موتاكم وانهضوا». وأشار إلى أن «على مدى عقود انتظرنا الساعة، لحظة المصالحة، فنهضوا ونهضنا وكان يوم عقد الراية بين العمامة البيضاء وبين العمامة المقدسة للبطريرك مار نصر الله بطرس صفير في آب (أغسطس) 2001 هنا في المختارة، مصالحة الجبل، مصالحة لبنان». وأوصاهم بأنه «مهما كبرت التضحيات من اجل السلم والحوار والمصالحة، تبقى هذه التضحيات رخيصة امام مغامرة العنف والدم او الحرب». وقال: «لذا يا تيمور سر رافع الرأس، واحمل تراث جدك الكبير كمال جنبلاط، واشهر عالياً كوفية فلسطين العربية المحتلة، كوفية لبنان التقدمية، كوفية الأحرار والثوار، كوفية المقاومين لإسرائيل أياً كانوا، كوفية المصالحة والحوار، كوفية التواضع والكرم، كوفية دار المختارة. واحضن أصلان بيمينك وعانق داليا بشمالك وعند قدوم الساعة ادفنوا امواتكم وانهضوا، وسيروا قدماً فالحياة انتصار للأقواء في نفوسهم لا للضعفاء».