لا يكاد الشارع حيث مقر حزب الغالبية (جبهة التحرير الوطني) في حيدرة بأعالي العاصمة الجزائرية، يخلو من محتجين. مناضلون ساخطون وقيادات محلية قدمت لتدعم عبدالعزيز بلخادم، في حراك «عنيف» تقول عنه القيادة الحالية انه «ظاهرة صحية» ويعلق خصومه بأنه «لحظة نهاية فساد الحزب». وعلى بعد أمتار من هدوء يحيط يمين سفارة العراق، تتعالى أصوات غاضبة تطالب بدخول مقر جبهة التحرير الوطني لملاقاة قياديين أو الظفر بحديث للأمين العام، هي الميزة الطاغية منذ أسابيع لشارع «محمد باق» في قلب الحي الراقي حيث تقع غالبية السفارات المعتمدة في الجزائر. «أزمة» الحزب باتت حديثاً لا ينتهي في صالونات السياسة الحزبية في الجزائر، فالجبهة وإن عرفت أزمات حادة في العشرية الماضية، لكنها ليست في مستوى ما يجرى داخل بيتها منذ قرابة شهرين. خصوم الأمين العام عبدالعزيز بلخادم اليوم يتقاسمون معه «الولاء» للرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، الرئيس الشرفي للحزب، لكنهم يتهمونه ب «تدمير الحزب»، فيما يرى بلخادم أن الأزمة لا تتعدى مجرد كتابات صحافية واصفاً خصومه ب «الفاشلين في التموقع في الحزب». كثر من المراقبين يطرحون الخلافات الحاصلة في الحزب من باب المقارنة وكثيرون اعتبروا الأزمة الحالية «حرب مواقع» لا يوجد فيها ما يمت بصلة ل «خلافات فكرية أو سياسات»، على عكس الأزمات التي شهدها حزب الغالبية سابقاً، واحدة منتصف التسعينات ساد فيها نقاش حول إخراج الحزب إلى المعارضة أو إبقائه «قاطرة» السياسة الداخلية في الجزائر، وعاد القول الأخير فيها لأصحاب الرأي الثاني فيما غادر الأمين العام السابق عبدالحميد مهري الأمانة العامة «مكرهاً» في عملية سميت «المؤامرة العلمية» قادها عبدالقادر حجار سفير الجزائر حالياً في القاهرة. وأخرى قبل خمس سنوات كانت الأعنف في تاريخ الحزب منذ الاستقلال، يومها بدت أزمة الحزب «أزمة بلد»، قادها فريق من «التصحيحيين» على رأسهم الأمين العام الحالي عبدالعزيز بلخادم. لقد أخافت تلك الأزمة قطاعاً واسعاً من السياسيين والمسؤولين، بما أنها جرت إليها حديثاً عن طبيعة تموقع كبار الساسة والعسكر (الجيش) معاً، بين معسكر عبدالعزيز بوتفليقة ومعسكر عبدالعزيز بن فليس، انتهت إلى فوز بوتفليقة بمقاليد الحزب «شرفياً» وبولاية رئاسية ثانية (2004)، فيما خسر بن فليس أمانة الحزب وخسر سباق الرئاسيات ثم اختفى من الحياة السياسية نهائياً. هذه الأزمة الدائمة التي يعيشها الحزب ذات صلة بالجانب التنظيمي والسياسي في علاقاته بالنظام السياسي، هناك من يقول إن جزءاً كبيراً من أزمة الحزب لا يمكن فهمها إلا إذا ربطت بالنظام السياسي الجزائري ذاته والعلاقة التي يقيمها مع الحزب. أصحاب هذا الرأي يعتقدون أن السلطة لا ترغب فعلياً بوجود أحزاب بمفهوم الدور والأداء المتعارف عليه، وترفض أن تبتعد جبهة التحرير عن الأدوار التقليدية الممنوحة لها، كمانحة شرعية ومجندة لفئات شعبية ريفية ومسوقة لخطاب ومؤطرة لنخب بمواصفات محددة، تعودت على الترقية الاجتماعية من خلال مصعد الحزب، تتصارع في ما بينها وتتنافس في أداء الأدوار المطلوبة منها، ضمن خريطة طريق السلطة السياسية نفسها. يعتقد المحلل السياسي، ناصر جابي، أن «الفكرة الوطنية الممثلة في حزب جبهة التحرير استهلكتها عملية تسيير الدولة الوطنية لفترة طويلة بعد الاستقلال، في الوقت الذي ضعف فيه اليسار وتوغلت فيه الفكرة الدينية». ويقول إن: «ما حصل أن الفكرة الوطنية أصبحت أكثر محافظة وانغلقت على نفسها، بعد الضغط الشديد الذي وجدته على يمينها، في غياب اليسار الذي كانت تستفيد من وجوده فكرياً وحتى بشرياً، انغلاقاً ومحافظة قضيا على الحيوية التي كانت تتمتع بها الفكرة الوطنية ذاتها وأدخلاها في أزمة عميقة في غياب تجديد فكري ذاتي جفت منابعه لتسود الشعبوية». قادة «التقويمية»: وزراء بوتفليقة يحاربون رجله الأول حينما يطرح «التقويميون» كما أطلق خصوم بلخادم على حركتهم، الأفكار التي يؤمنون بها، فهم يعلنون الولاء للرئيس بوتفليقة، وحينما يرد محيط بلخادم فهم يخلفون عن ذكر ولاء الحزب ككل للرئيس، أمر يحيل للتساؤل عن خلفية الصراع، بما أن معادلة المدى البعيد لا تجد مكاناً لها وتعني رئاسيات 2014 التي يجهل إن كان بوتفليقة سيسابق فيها لولاية رابعة أم لا. يظهر في أعلى قائمة «التقويميين» وزير التكوين المهني، الهادي خالدي، أحد قادة الحزب البارزين ممن لا يعرف عن دورهم الحزبي الكثير، كان على رأس قائمة الحزب في التشريعيات الماضية (2007) في ولاية وادي سوف في الجنوب الشرقي الجزائري، واحتفظ بمنصبه على رأس وزارة التكوين لسنوات عدة، لا ينظر للرجل داخل الحزب كصاحب كاريزما أو ضمن صفوف ما يعرف ب «الحرس القديم». وفي قائمة «التقويميين» وزير العلاقات مع البرلمان، محمود خوذري، كلف في وقت سابق وزارةَ الصناعة ثم عاد إلى «العلاقات مع البرلمان» التي شغلها من قبل، بدوره ليس رجل كاريزما حزبية. أما الوزير الأسبق للسياحة محمد الصغير قارة وهو ضمن قائمة «التقويميين» والناطق باسمها فيحسب الرجل على منطقة القبائل (البويرة) لكنه لسنوات أيضاً عمل في الخفاء وما كان صوته يسمع في كواليس الحزب إلا نادراً، كان سفيراً للجزائر في ليبيا لكن أنباء تحدثت عن عزله من قبل الرئيس بوتفليقة بسبب «خطأ بروتوكولي» وحالياً هو نائب في البرلمان. ويقول متابعون إن الحركة «التقويمية» لو انطلقت من عمار تو وزير النقل الحالي، أو الطيب لوح، وزير العمل، لكان للحديث شأن آخر، إلا أن موقع الوزيرين، الخالدي، وخوذري داخل الحزب، فسح المجال للتساؤل عمن يقف وراء القوة التي انطلقت بها التقويمية؟ والسر وراء حجم بيانات التأييد التي تصل قاعات تحرير الصحف من أقسام ومحافظات للحزب في ولايات جزائرية؟ إقصاء الخالدي وقارة على الأقل لغاية 2015 أسرت مصادر مسؤولة في الحزب ل «الحياة» أن لجنة الانضباط فيه، تفكر في عقوبتين، تخصان فقط وزير التكوين، الهادي خالدي، ومعه محمد الصغير قارة، بسبب «التصريحات وإصدار بيانات تسيء لقيادة جبهة التحرير الوطني»، وقالت المصادر: «في حال مثولهما أمام اللجنة فسيتم تجميد عضويتهما حتى 2015» وفي «حال رفض المثول فسيتم طردهما من هياكل الحزب». وكانت لجنة الانضباط أحالت ملفي القياديين رداً على ما وصف ب «الإخلال بقواعد الانضباط الحزبي»، وجاء في بيان أعقب اجتماعاً للمكتب السياسي، برئاسة الأمين العام، عبدالعزيز بلخادم، أن المجتمعين دعوا لجنة الانضباط المركزية إلى فتح ملفات هؤلاء القياديين ومتابعتهم على ما صدر منهم من «تجاوزات» في حق مؤسسات الحزب وقيادته. وأكد بيان المكتب السياسي، أن الأمين العام والمكتب السياسي قررا دعوة لجنة الانضباط لعقدها من أجل معاقبة كل من «ثبتت إدانته طبقاً للأحكام الواردة في القانون الأساسي والنظام الداخلي للحزب، كالإساءة إلى سمعة الحزب أو مناضليه أو الانحراف السياسي أو مخالفة قواعد العمل الحزبي، والطعن في قرارات الهيئات والقيادات خارج الأطر النظامية للحزب». ورداً على استخدام «الغاضبين» لتجديد العضوية، وقوداً لإشعال «نار الغضب»، أشاد البيان بسير عملية تجديد الهياكل القاعدية للحزب، وأكد بأنها «احترمت النصوص الحزبية واستجابت لاهتمامات المناضلين وانشغالاتهم». لكنّ الغاضبين استقبلوا تهديد اللجنة بكثير من «الاستهتار»، وهو أمر فهمه مراقبون على أن خصوم بلخادم مدركون منذ الوهلة الأولى لطبيعة الإجراءات، ما يعني أن الهدف من «الحركة» أكبر من مجرد «تشويش على الحزب»، بل هناك من يشير إلى أن «التقويمية» قد حققت هدفها حتى قبل معرفة مصير الملف، وهي أدخلت بلخادم في صراعات كان في غنى عنها في الوقت الذي يتمتع حزب التجمع الوطني الديموقراطي بانضباط هيكلي غير مسبوق، وقد ردت «التقويمية» على لجنة الانضباط بأن القانون الأساسي والنظام الداخلي للحزب يحصران الاختصاص في قضايا الانضباط في اللجنة المركزية وحدها، بعد الإحالة من الأمين العام وحده، وهي منتخبة من طرف اللجنة المركزية مباشرة، ومستقلة وسيدة في قراراتها. يقول أعضاء الحركة التقويمية: «لقد فوجئنا بملاحقة البعض، دون البعض الآخر، بطريقة انتقائية تمييزية». وبدا لعبدالعزيز بلخادم، أن مجموعة «التقويميين» لن تذهب بعيداً وأنها «مجرد حملة» تنتهي بنهاية انتخابات تجديد الهياكل التي أجريت في قرابة 1600 قسم عبر الجزائر. لكن سوء حظ بلخادم، جعل مساعيه لاحتواء الأزمة، تتزامن مع اندلاع صراع سياسي خفي مع غريمه الأول والأزلي، أحمد أويحيى الوزير الأول في الحكومة والأمين العام لثاني قوة سياسية (التجمع الوطني الديموقراطي)، فترة تشهد الكثير من المرافعات وادعاء كل منهما بأنه يمثل القوة السياسية الأولى في البلاد، ما جعل مراقبين يقدمون الوزير الأول أحمد أويحيى على أنه الأصلح للمواعيد السياسية القادمة، وبالنسبة لساسة الجزائر فإن الرئاسيات المقبلة ليست ببعيدة وأي تقديم لشخص على آخر هو ربط مباشر بذلك الموعد. وتكون هذه الأسبقية على «الورق» طبعاً التي يملكها أويحيى وراء هرولة عبدالعزيز بلخادم لفرملة طموحاته من طريق ممارسة ضغوط عليه من خلال إنشاء اللجان ال11 التي لم تخفِ قيادة الحزب العتيد القول بأنها «حكومة ظل» لمراقبة ما يجرى داخل قصر الحكومة. وقد خرجت الخلافات بين أحزاب التحالف الرئاسي في الجزائر إلى العلن، خلال أيام من مناقشات قانون المالية للعام المقبل، ولم يشهد البرلمان منذ تأسيس التحالف الذي يدعم بوتفليقة، أن انسحب نواب التجمع الوطني الديموقراطي، احتجاجاً على كلمة ألقاها رئيس الكتلة البرلمانية لحزب جبهة التحرير الوطني، بسبب إطراء نواب التجمع للوزير الأول، أحمد أويحيى، في حين رأى الثاني أن الرئيس بوتفليقة هو من يستحق ثناء النواب.