لا يكاد الجزائريون يشعرون بوجود عشرات الآلاف من الجمعيات في حياتهم، إلا في مناسبات محددة، ما انعكس على العمل التطوعي المرتبطة بجوانب منه، وولّد تساؤلات حول التخلّي عن اعتناق تيار إنساني يقدّم يد المساعدة لكل محتاج، أو مشرّد أو مريض، أو بالأحرى لماذا لم ترتقِ حتى الآن إلى أن تكون ثقافة مجتمعية في البلاد. بروز جمعيات تُعنى بالتضامن الوطني والعمل الخيري، انتعش في السنوات الأولى لإقرار الديموقراطية والتعددية في الجزائر بداية تسعينات القرن ال20، لا سيما أن الظروف العامة آنذاك كانت تسمح بذلك، إلا أن نشاطها بدأ ينحسر في شكل حاد ومستمر خلال السنوات الأخيرة. وباستثناء العمل الخيري المعروف كالصدقة ودور جمعيات تأسست بناء على تجارب خاصة، لا يكاد يلمس الجزائري كثيراً من مبادرات التطوع بدءاً بالتشجير في الأحياء أو تنظيفها، مساعدة المرضى في المستشفيات، وانتهاء بالتبرّع بالدم والأعضاء البشرية، وهي مؤشرات تظهر عدم تقدير المجتمع لدور العمل التطوعي. علماً أن حركة الجمعيات الخاصة بالنشاط الخيري تتكئ على تراث عريق، إذ كانت عفوية وتتمثّل في الزوايا الصوفية التي كانت تؤوي طلبة العلم وتدعمهم مادياً وتقوم بشتى أعمال التضامن والتكافل مع المحتاجين إلى جانب تنظيم «تاجماعت» و «الوزيعة»، وهي تنظيمات عشائرية قائمة منذ قرون في منطقة القبائل تشرف على أعمال التضامن وتنظيم الحياة العامة للسكان. لا أثر ولا اهتمام وكشف مركز البحث في الأنثربولوجيا الإجتماعية والثقافية أمراً غير طبيعي من خلال نسبة المواطنين المنخرطين في العمل التطوعي، إذ حدد نسبة المنخرطين في الجمعيات المختلفة، بين 3 و4 في المئة فقط، في مقابل 44 في المئة بفرنسا، وخلص إلى أن لا أثر للجمعيات في الواقع المعيشي للجزائريين ولا تستحوذ على اهتماماتهم. رياض ثابت متطوّع في الجمعية الخيرية «بيت القصيد» في محافظة البليدة (25 كلم غرب العاصمة الجزائر)، يؤكّد تراجع اهتمام الفئات الشبابية بالنشاط الخيري سواء من جانب المتبرّع أو المتطوّع، متأثراً بحوادث عدة أفقدت كثيرين شهية اقتحام هذا المجال. وذكر ل «الحياة»، حادثة وقعت في البليدة العام الماضي لشاب مصاب بداء الهيموفيليا كان يحتاج الى جراحة في فرنسا، فلقي تعاطفاً وتحوّلت قصته إلى قضية رأي عام، لكن بعد أن تبرّع له محسنون بأكثر من 8 ملايين سنتيم (ما يعادل مليون دولار)، أعلنت الحكومة تكفلها بنفقات علاجه، فيما لم يعد الشاب ما حصله من مال إلى المتبرّعين. وعلى رغم ذلك ووفق الناشط ثابت، حقق تحرّك جمعية «بيت القصيد» نتائج جيدة بعد ثلاث سنوات من التحرّك. فهي تضم 72 متطوعاً من أصل 120 رياضياً دولياً، وبما أن طابعها رياضي خيري نظّمت قبل أسابيع حفلة زفاف ل50 شخصاً. من جانبه، يفضّل سعيد ملاني فكرة العمل التطوعي بعيداً من الجمعيات الناشطة في أرجاء البلاد، بعدما أصبح عدد منها «إنتهازياً ومناسباتياً»، محبّذاً العمل بطريقة عفوية وضمن مجموعات محدودة كيلا تلصق بأفرادها تهم، ويتجنبون تلقي أموالاً في هذا الإطار بل مستلزمات وتجهيزات للمشروع الذي يسعون إلى تحقيقه. يذكر أن القانون الجزائري يمنع مثل هذه الأعمال إن لم تكن مرخصة، لكنه يتغاضى عن ذلك في مرات كثيرة. كما حجبت السلطات دعمها المالي عن غالبية الجمعيات بعد أن كثرت التصريحات التي تتحدث عن اتخاذها مطية لتحقيق مكاسب وريوع وانتفاع من الخزينة العمومية تحت غطاء الدعم. وهكذا لم تحل السلطات الجمعيات الخاملة، لكن لا تقدّم لها الدعم المادي، ما يعني «موتها» عملياً. مبادرون أم إنفعاليون؟ ويجمع خبراء في علم الإجتماع على أن المعوقات المتعلقة بالعمل التطوعي تكمن في الجهل بأهميته والإنهماك في السعي وراء الرزق من دون تخصيص وقت فراغ للأعمال الخيرية، ما جعل العمل التطوعي في الجزائر لا يتجاوز كونه مبادرات فردية لا يمكن تصنيفها ضمن خانة الظاهرة الاجتماعية حالياً، رغم فعاليتها في مناسبات عدة. وتوضح نصيرة خلوفي الأستاذة الجامعية الإختصاصية في علم النفس الإجتماعي، أن المستوى المعيشي للجزائريين سبب رئيس في النفور، لأن الحياة من أجل كسب لقمة العيش أهم هدف عند الغالبية. ومن منظور نفسي ينقسم الجزائريون إلى قسمين، المبادرون والإنفعاليون. وتصف خلوفي ل «الحياة» المبادرين ب «المبدعين الذين يحاولون إيجاد حلول، وهم أقلية لكنهم ناشطون في المجتمع المدني ويكونون سباقين لخلق فرص. أما الإنفعاليون فعددهم كبير غالباً، وهم الذين يقصدهم المبادرون ليشاركوا معهم في النشاطات التي يقومون بها». وتضرب خلوفي مثلاً بوقوع كارثة طبيعية، «فنجد الجميع يهب ليقدّم مساعدة، أو على غرار برنامج اليد في اليد الذي يساعد على بناء مساكن لأسر معوزة. هكذا يتفاعل كثر مع البرنامج على حساب أشغالهم». ويعتمد المبادرون على أساليب جديدة مع المحتاجين. ويقول ثابت: «نبحث في أحيان كثيرة عن وسيلة للمساعدة من خلال أصحاب الحاجة أنفسهم. فإذا كانت العائلة موضع تحرّكنا تضم أشخاصاً راشدين يتمتعون بصحة جيدة، فنبحث لهم عن عمل مناسب حتى تصبح تعيل نفسها ولا تنتظر إعانة من أحد. لا سيما أن المحتاج الفعلي غالباً هو من يطرق باب الجمعية طلباً للمساعدة، وفي ضوء خطوته نتحقق من ظروفه المعيشية». وفي هذا السياق، دعا بشير مصيطفى وزير الدولة السابق للإستشراف والإحصاء إلى تطوير العمل التطوعي في البلاد كي يتحوّل من مجرّد عمليات ظرفية يغلب عليها الطابع الخيري إلى منظومة إجتماعية تساهم في التنمية المستدامة، وفي تشكيل الناتج الداخلي المحلّي من خلال مؤسّسة وطنية معتمدة. كما حضّ على إطلاق ما سماه «المؤسسة الوطنية للتطوّع» تحت مظلة المجتمع المدني، والتي تتكفّل بوضع مؤشّرات التطوّع وإطلاق بنك معلومات هذا العمل وتصميم سياساته بشرياً ومادياً.