بعدما همّ ماجد رشيد العويد بالخمسين وهمّتْ به، جاء هذا القاصّ المقلّ بروايته الأولى «الغلس» (الدار العربية للعلوم - ناشرون 2010). وإذ كان عنوان الرواية يدل على الزمن (ظلمة آخر الليل، الزمن المفضل للاعتقال أو زمن زوار الفجر، زمن ظهور الجن..)، فبالزمن، وعليه، انبنت الرواية في ذلك الفضاء الريفي البدوي وسط سورية الشرقية، أي في الرقة. وقد رمى الكاتب بمفاتيح الرواية في البداية التي تعنونت ب «توطئة»، ثمّ تقفّى مسار مدينته منذ كانت قرية مطلع القرن الماضي، حتى صارت فضاء زمن الحرب العالمية الثانية، حين بدأت الرواية، لتتوالى فصولها بمقتضى الموت السريري للعم حمود، والذي سيتطاول حتى البارحة. وعبر ذلك ستكون الرقة قد صارت مدينة تضيق بالسجون، وبمراكز «العقيدة النقية»، وبكل ما يخرج بها من أسر فضائها الصغير إلى الفضاء السوري والعربي الكبير. أما العم حمود فسيتسمى بالمسبوت. وبزمن سباته تتنضد الرواية، (السنة الأولى من السبات - السنوات الثلاثون - 43 سنة من السبات...). ومثل ذلك الخروج الرمزي للرقة، جاء أيضاً خروج العم حمود من حاكم لبلدة صغيرة إبان الحرب العالمية الثانية، وعضو في البرلمان السوري، إلى الديكتاتور المتأبد. والرجل منذ البداية ما كان يشغله أكثر من بقائه حاكماً لتلك البلدة، ومن بعده أولاده. لكن ذلك سينفخ فيه الزمن، لكي يكون للحكايات لون آخر بعد استقلال سورية، وبعد حربي 1967 1973 وحرب الخليج الأولى فالثانية، وصولاً إلى البارحة التي طوت قرناً وأهلّت بقرن. قبل دخوله في السبات، قُدِّر عمر المسبوت بسبعين، لكن عمره في قول بلغ مئات «عرفنا منها سبعين مكللة بالجمود». وربما تطاول السبات ليبلغ السبعين. لكن بعض المولعين بالأرقام ضربوا السبعين بسبعين، فخرجوا بعدد كبير وضربوه بنفسه «فهالهم ما أبصروه من ثبات قاتل يعيشونه». على هذا النحو تلعب الرواية لعبة أسطرة الحاكم الذي بات كالنميمة أو التعويذة، تحمي رعيتها من الشر النازل عليهم من الحكومات المتعاقبة، التي لم تترك لهم غير الإيغال في حكايات الجن وغيرها. وللشديد على أهمية الحكايات، فقد بث التلفزيون الوطني برامج كثيرة حول مجد الحكايات وتاريخها المجلل بالمهابة. وهكذا تندغم الأسطورة بالحكاية، والأسطرة بالحكي، فينشط التخييل الروائي، وتتبارى أخيولات الديكتاتورية. ففي السنة الأولى من السبات ظهر المسبوت في صورة على ظهر فرس كميت، بالحطة والعقال. وفي السنة الخامسة ظهر في صورة يقود المرسيدس، ثم ظهر في صورة لا شبيه لها، متعالية ومباركة، توقد في البلاد لتخفي الظلمة «ترفع من تشاء وتذل من تشاء، في دورة من رعب بلا مثيل». وقد انتقلت أرواح الصور من دار إلى دار، واحتلت مساحة من التلفزيون الوطني في نشرة الأخبار كما في الإعلانات، حتى أكد الجميع أن المسبوت هبط من الصورة ليجلس على كرسي مذهب مشغول بيد بشرية، أتقنت فن إراقة الدماء. وبعد الجلوس أنار المسبوت المكان بابتسامته الوطنية، ثم سرى، حيث يجلس إلى ضيوفه «تاريخ مليء بالدول والممالك والفتوحات والمعارك، وجرت على ألسن أسماء ملوك وقواد وفاتحين...». وتمضي الرواية بالعم حمود (المسبوت) حتى يبلغ مبلغ من صاغت الرواية العربية من الديكتاتور في روايات جمّة لواسيني الأعرج وسالم حميش وأبو بكر العبادي وغازي القصيبي وحيدر حيدر وفاضل العزاوي وغيرهم، وإذا بديكتاتور رواية «الغلس» خالد مثل الدهر، في العلياء دائماً وأبداً، لا ينام وإن استلقى (بجلبابه وبنطاله، بعقاله أو من دونه، بابتسامته أو بعبوسه)، وهو الخطيب المفوّه، والمقاتل الصنديد الذي وطّد الأمن، حتى قرّر الناس، مع ابتداء السنة التاسعة والعشرين من السبات «أن حمود ليس مجرد إنسان، إنما هو بعض نبي ورسول». ولأنهم لم ولن يدركوا موته فقد صلّوا له، وآمنوا بأن «معجزة شقت السماء هبوطاً على براق جديد من حديد، وأن ملائكة نفخت فيه من روحها، ما سيجعل ابتسامته تطوف حول البيوت وساكنيها». وكان الناس منذ سنة السبات العشرين قد قرروا، وفاءً لزعيمهم، أن يتذكروا يومياته ومعاركه وبطولاته، ويعلنوا الولاء في كل مرة يقرأون فيها شيئاً من دفتره العظيم «من أول هبوطه واستقراره على الكرسي المزخرف وإلى الأبد». بريء بعد السجن بعد عقود السبات، آمن الناس بأن المسبوت سيظل يحكم من سريره، ومن داخل غيبوبته. واتفقوا على أن الحاكم القائم في الزمان، حجة العصور ووريث دهاة العرب، وباني مجدهم المعاصر الذي يتنفس من هواء سبع سموات طباقاً ينزلن إليه عامرات بالمسرّة، يغرف منها وينثر في البلاد، فينعم الناس، ولسان حالهم يقول: «نحن نعيش في ظله الممدود حياة سؤدد ووئام، ولقد تيسر لنا هذا بعد حروب داخلية كثيرة». وقد بلغ الأمر أنه يكفي أن يتذكر الديكتاتور حتى يبرأ من أي مرض أو عيب، ويمتلئ بالمرح والسعادة، ويقبل على الحياة فخوراً بخياره الأمثل: المسبوت صاحب العقيدة النقية. وكما كان الحجاج أمثولة للديكتاتور في رواية هاني الراهب «رسمت خطاً في الرمال» وفي رواية غازي القصيبي «العصفورية» هو في رواية ماجد رشيد عويد «الغلس». فالمسبوت الذي صار في سباته مزاراً، يقصده الزوار من مختلف الأقطار، استهوته قدرة معاوية، وذكاؤه ودهاؤه، لكن بطله هو الحجاج «باني دولة من الطراز الرفيع». وقد كانت سيرة الحجاج أحد مصادر قوة المسبوت الذي ينام وتحت وسادته كتاب عن الحجاج، وفي سفره على الفرس أو في السيارة أو على الطائرة، يتأبط سيرة بطله، كما يذيع بعضها في الاحتفالات، ما يجعل الناس في رعب مستمر. فلا غرو إذاً أن يحكم المسبوت بأن العدل كلمة فضفاضة، ولا مجال لإرسائها، فالقوة فقط هي أساس الملك. تمضي الرواية بهلال إلى السجن حيث يلتقي بالإخوان المسلمين والشيوعيين، ويعيد السجن تشكيل شخصيته، فيخرج منه بريئاً من بهلولية الماضي. وعبر نصف قرن من حياة هلال وزمن الرواية، ستثقل التقريرية عندما تتحدث عن الصراع الدامي بين السلطة والإخوان المسلمين، أو عن التدميرية بين النظامين السوري والعراقي، أو عن حرب الخليج... كما سيثقل على الرواية تراكب الحكايات (قصة والدة راحيل في لندن، قصة فارعة وأمها...). لكن السخرية الجارحة ستظل تخفف من ذلك الإثقال، وبخاصة حين تتوجه إلى العقائدية الشهيرة وما تفرع منها من الجيش العقائدي والحزب العقائدي، وبخاصة في الستينات السورية والعراقية. وقد حورت الرواية العقائدية إلى «العقيدة النقية» التي لم يؤمن هلال بها، لأنها رمت عشرات الآلاف في السجون والمنافي «وأي نقاء ما دامت جعلت للنقيين امتيازات لا يعرفها من لم يعرف النقاء إليهم سبيلاً؟». وبالإشارة إلى هزيمة 1967 يجلو السارد أن النظام العقائدي السوري الذي أحكم الحديد على الرقاب لم يسقط، وأن «العقيدة النقية» في زهوها ومجدها تطل من أعلى الجبل «قاسيون» على المدينة، وإذاً: «فشل المستعمرون القدامى والجدد مع صنيعتهم إسرائيل في اسقاط النظام الوطني، باني وحدتهم العابرة للطوائف». أما في عام 1973 فقد استعاد جيش العقيدة النقية شيئاً من الكرامة الوطنية «وهنا أيضاً ليس مهماً أن تخسر بعض الأرض، بقدر ما تكمن الأهمية في انتزاع زمام المبادرة في الحفاظ على هيكلية النظام الوطنية». ولا تنسى الرواية لبنان، فجيش العقيدة النقية تدرب على حماية العروبة، ودخل إلى لبنان ليقتلع من الجذور بذرة الطائفة التي تريد الإطاحة بلسان الوليد والرشيد! في السجن أدرك هلال كم هي باطلة وخداعة لفظة نقي، وكم هي باطلة الأغاني الوطنية التي تسوّق الديكتاتور وعقيدته. وبعد السجن أدرك هلال أن بقاء المسبوت مسبوتاً هو بقاء للسجن والجهل والتخلف، لذلك بدأ يؤمن بوجوب موت هذا المنزه المعصوم الرشيد... فبذلك «بزوال العقيدة النقية يزدهر البلد وينمو، وببقائها لا حياة لهذه البلاد». وقد كان هلال في زمنه الأول، يتحدث عن طفله الذي سيولد ويرث الأرض من بعده، طفله المخلوق من طبيعتين، من الطين والنار، سيبعث الحياة في مدينته النائمة، وتنتقل روحه إلى شرايين المدن. وفي نهاية الرواية يأتي إلى الرقة الابن، ثمرة الخطيئة بين هلال وراحيل، ويدعو أباه إلى الرحيل معه، إلى لندن وليس إلى اسرائيل، لكن هلال يرفض فيرحل ذو الطبيعتين، اليهودي والمسلم في آن، فمن منهما الطين ومن النار؟ ومن سيأكل منهما الآخر؟ تدع الرواية الأسئلة معلقة، وهي تسرع إلى النهاية بانتحار هلال في نهر الفرات، وربما باختناقه في زوبعة، وربما برميه مقيد اليدين معصوب العينين، في الفرات «غير أن الثابت أن سيارة مغلقة عبرت الجسر إلى دمشق تحمل ذكريات مقيدة معصوبة العينين إلى حيث سجونها الرهيبة». وبذا تتوج الرواية فجائعيتها وتعريتها، وتلتف على ما اعتور سبيلها إلى هذه النهاية من زحام أو اضطراب، لتورث القراءة شوكة في الحلق.