استقبلت بلاد الشام، بداية القرن الماضي، المهاجرين الأرمن الذين وفدوا إليها بعد المجازر التي تعرضوا لها على يد الأتراك، وخلال مدة زمنية ليست طويلة حصلوا على الجنسية السورية، وأصبحوا مواطنين سوريين بموجب القوانين السورية النافذة آنذاك. ولم يذكر لنا التاريخ أن المجتمع السوري وقف موقفاً معادياً من ظاهرة التوطين هذه في تلك الحقبة. بعد ما يقرب من القرن على هذه الظاهرة، يتعرض الوجود المسيحي في المنطقة العربية، إلى جملة من التحديات والضغوطات، كان آخرها المجزرة الدامية في كنيسة حي الكرادة في بغداد. والسؤال الذي يطرح نفسه: ما هي العوامل التي تقبع في خلفية هذا النكوص، من توطين الأرمن بداية القرن الماضي، إلى تهجير المسيحيين العراقيين بداية القرن الحالي، وممارسة الضغوطات عليهم في لبنان ومصر؟ علماً أن المسيحيين أقدم من المسلمين في المنطقة العربية، وليسوا وافدين على نسيجها الاجتماعي، لا بل هم حملة لواء العروبة والنهضة والحداثة في مطلع القرن العشرين. عوامل كثيرة تقف وراء ذلك في مقدمها: الفارق بين ثقافتين سادتا في ظرفين تاريخيين مختلفين. استقبلت بلاد الشام الأرمن ووطنتهم، في الزمن الذي كانت فيه روح «عصر النهضة» أو «العصر الليبيرالي»، هي التي تحدد مضمون الثقافة والسياسة آنذاك: انفصال عن التراث السلطاني، نهضة وطنية وقومية، قبول لفكرة التعدد والاختلاف، حركة أحزاب وقوى اجتماعية واقتصادية صاعدة باتجاه حياة مدنية، وباتجاه تجارب سياسية برلمانية، إرهاصات مجتمع مدني آخذة بالتشكل والنمو، أيديولوجيا المجتمع التقليدي في حالة تراجع، شعارات ورايات تلك المرحلة: «الدين لله والوطن للجميع»، الدولة الدستورية، سيادة القانون، الحرية وعلى الأخص الحرية السياسية، وحرية المرأة، وحرية الصحافة والعمل، الانتقال من مفهوم الملة/الديني إلى مفهوم الأمة/العلماني، مترافقاً مع الانتقال من سيادة العرف إلى سيادة القانون الوضعي، الخ. هذه الشعارات والرايات شكلت رأياً عاماً ناهضاً، خرج عن «ستاتيكو» تراصف الملل العثماني، لذا يغدو مفهوماً في هذا المناخ الثقافي - السياسي، ضمور عدوانية الرأي العام تجاه ظاهرة توطين الأرمن. في المقابل، فإن شروط العرب التاريخية بداية القرن الحالي، شكّلتها سيرورة نكوص عن العصر «الليبرالي»، سياسياً وثقافياً واجتماعياً. وإذا استعرنا نمذجة المفكر عبدالله العروي «للأيديولوجيا العربية المعاصرة»، يمكن القول: كان التقهقر مبدأ حاكماً على مسار نماذج هذه الأيديولوجيا، الشيخ، الليبرالي، والقومي. إن الانحدار الذي حصل في مجتمعاتنا، ما بين توطين الأرمن وتهجير المسيحيين، هو الانحدار ذاته الذي حصل لمسار الشيخ الإصلاحي المتنور، الذي كان نموذجه محمد عبده، فمع رشيد رضا تم عزل الشيخ عن مشروع الإصلاح والتنوير، ليتأسس في ستينات القرن الماضي- مع سيد قطب - فقه التكفير، الذي انحدر أيضاً بإسلام حسن البنا مع نظرية الحاكمية، وصولاً إلى الإسلام القاعدي، وإلى شيوخ القتل ومنظري الانتحار الجماعي. كذلك هو الانحدار ذاته الذي حصل لليبيرالي عن لحظة طه حسين، التي ارتقت كونياً، وعانقت العقلانية الديكارتية وحاولت التأسيس لها عربياً، وتجلت تجارب برلمانية، وحريات سياسية، وارتقاء في عملية تشّكل دول ومجتمعات حديثة. لكن الاندفاعة الشعبوية الجامحة التي شهدتها المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية، وتمأسست في ثورات شعبية، وأحزاب أيديولوجية، وحركات توتاليتارية، اغتالت لحظة التنوير تلك. أما القومي/ الاشتراكي الذي نادى بدولة تقنية قوية، وأمّم الصناعة والتجارة والزراعة، ورفع شعارات التحرير ووعود نقل الجنة إلى الأرض، فقد تصالح مع التقليد وصار عدواً للحداثة، وساهم إلى هذه الدرجة أو تلك بإعادة بعث التاريخ المملوكي- العثماني، وبخاصة المضمون السلطاني للدولة، وكانت النتيجة فشل «دولة الاستقلال» في إدارة مجتمعاتها وتنميتها، وأنفجرت تلك المجتمعات ديموغرافياً، وتجّسد الانفجار تصاعداً في الفقر والجهل والأمية والتصحر البيئي والثقافي، وتصحراً في روح البشر وعلاقاتهم الاجتماعية. وشكّل سوسيولوجيا مولدة للتطرف الأيديولوجي، وبنية حاضنة للاستبداد السياسي والديني. هذا في الوقت الذي انبثقت فيه من بيروقراطية الدولة، شريحة نهّابة عّمقت حدة التفاوت الاجتماعي، وتجلى ذلك بالتراجع الحاد في مواقع الفئات الوسطى. إن النتائج التي آلت إليها نماذج الأيديولوجيا العربية المعاصرة، تنبئ بأن القومي المستبد تواطأ مع الشيخ الظلامي في عملية اغتيال الليبرالي، وبعد إنجاز جريمة الاغتيال، صار المجال الثقافي في مجتمعاتنا منتهكاً، من قبل أصولية مستكلبة، منبعثة من جوف التاريخ، تحاول طمس التعدد والاختلاف بالعنف العاري والدموي، وفقاً لمنطق «الملة الناجية». في ضوء هذه التحولات خلال قرن من الزمن، يصبح واضحاً: كيف انتقلت مجتمعاتنا من ثقافة التعدد إلى الثقافة الواحدية، وبالتالي من توطين الأرمن إلى تهجير المسيحيين.