أشار مفسرو القرآن إلى شخصية (ذي القرنين) الذي بني سداً من قطع الحديد، ليفصل بين أهل الأرض وبين يأجوج ومأجوج، فصرح بعضهم بأنه الإسكندر الذي بني مدينة الإسكندرية، ولكن ما حقيقة هذه الإشارات في التفسيرات القرآنية المتعددة؟ وما حقيقة الربط بين الشخصيتين؟ وما هي أبعاد ذلك الربط وظروفه الموضوعية والتاريخية؟ ومن سبب ذلك كله، ولماذا الإسكندر بالذات هو من ارتبط اسمه بشخصية ذي القرنين؟ وما الهدف من ذلك الربط بين الشخصيتين؟ وما هي حقيقة شخصية الإسكندر الأكبر نفسه؟... كلها أسئلة محورية في هذا الصدد لا يمكن تجاهلها ولا مناص من أن يدور العقل في فلكها، حتى يتفهم حقيقة هذا الربط وأسبابه الموضوعية والتاريخية. والثابت أن المؤرخ الجاد لا يكف أبداً عن أن يسأل التاريخ ويستنطقه... ويستقري مروياته... بغية أن يصل إلى الحقيقة، فيساهم في إضاءة حقبة في التاريخ لم تكن مكشوفة من قبل، وهذا ما فعله صاحب الكتاب الذي يحمل عنوان «الإسكندر وذو القرنين بين التاريخ والقرآن» الباحث المصري الدكتور عماد الكاشف، عبر صفحات قدم لها المؤرخ المصري الكبير الدكتور عاصم الدسوقي، والكتاب صادر عن «مؤسسة العالم العربي للدراسات والنشر» في القاهرة. يلفت الدسوقي إلى أن من بين الإشكالات التي تواجه الباحث في التاريخ تفسير أحداثه وشخصياته، وبخاصة الأحداث الكبرى التي تجاوز تأثيرها حدود المكان الذي وقعت فيه، والأشخاص الذين تصدروا مشهد هذه الأحداث وسيطروا عليها وتحكموا في توجيهها بطريقة أو بأخرى وتركوا بصمتهم في شكل واضح على صفحات الزمن. هذا الكتاب الذي يتناول الإسكندر الأكبر يمثل أحد المآزق التي يجد فيها باحث التاريخ نفسه بين حقيقية الواقع الذي عاشته هذه الشخصية طبقاً لما أوردته المصادر، وبين الهالة الأسطورية التي أضفتها مصادر أخرى عليه ووضعته في منزلة فوق مستوي البشر العاديين، بحيث أصبح اختياراً إلهياً بسبب الإنجازات التي حققها في زمن قصير كانت عند معاصريه من المعجزات. ومن ناحية أخرى، فإن من يكتب عن شخصية لها مكانتها في التاريخ قد يجد نفسه وقع في أسرها فيقدمها بصورة تتناسب مع تلك العظمة والمكانة، وهناك من يتخذ موقفاً سلبياً من الشخصية التي يكتب عنها في شكل مسبق وفقاً لانتمائه السياسي أو معتقده الديني، فتضيع منه المعالم الحقيقية لهذه الشخصية، وهذا هو جوهر الإشكالية عند الكتابة عن دور الفرد في التاريخ. في هذا السياق تأتي شخصية الإسكندر الأكبر، المحيرة في التاريخ، الأسطورية الحديث، وما يبرر الهالة الأسطورية لهذه الشخصية أن الإسكندر في خلال خمس سنوات (335 ق.م - 330 ق.م) وعندما كان في الحادية والعشرين من عمره قاد جيوشه من هضاب مقدونيا إلى بلاد اليونان وأخضعها، ومنها إلى بلاد سورية (فينيقيا) ومصر ثم إلى بلاد فارس (إيران) وحتى حدود الصين... الخ، ومثل هذه الإنجازات جعلت من يكتب عنها لا يجد لها تفسيراً إلا أن صاحبها (الإسكندر) اختيار إلهي، ومن ثم كان تفوقه الملحوظ، وكانت انتصاراته الدائمة و «أسطورته» في النهاية. يدور الكتاب الذي يقع في نحو مئتي صفحة من القطع الكبير حول ثلاثة محاور أساسية كالتالي: المحور الأول: ويدور حول التكوين، بمعنى كل ما يتعلق بتكوين شخصية الإسكندر والعوامل التي أثرت فيه، وفي بلورة تفكيره، وجعله قادراً على مواجهة الصعوبات في المستقبل. المحور الثاني: وهو الطموح، ويعالج هذا المحور كل ما يتعلق بطموح الإسكندر على الجانب العسكري والحضاري متضمناً انتصاراته وغزواته وطموحه في قيادة العالم القديم. المحور الثالث: ويعالج الأسطورة، التي تحدث دائماً بعد وفاة الإنسان الناجح في الدنيا، والأسطورة في سيرة الإسكندر تشكل عاملاً أساسياً في دراسة حياته، لا سيما أنه أحيط بقدر كبير من الاهتمام جعل الكثير من الشعوب تنسب شخصيته إليها ليكون وريث حضارتها ورمزاً لتراثها. كما يعالج هذا المحور حقيقة العلاقة بين شخصية الإسكندر وشخصية ذي القرنين المشار إليها في القرآن الكريم في سورة الكهف الآية 83 وأسباب الربط بين الشخصيتين، إذ دخلت شخصية الإسكندر الأكبر في التفسيرات القرآنية المتعددة، وانتشر الخيال حتى وصل الأمر إلى أن الإسكندر الأكبر هو ذو القرنين، والسبب في ذلك ما نقله المفسرون من الأدب الفارسي الذي صور الإسكندر الأكبر على أنه ذو قرنين لاعتبارات كثيرة شكلية وعسكرية، وبعد انتشار الإسلام أخذ المفسرون من هذا الأدب الفارسي ما يوضح في ظنهم أنه تفسير للآية الكريمة (ويسألونك عن ذي القرنين) من دون النظر إلى اعتبارات النشأة والتكوين والاتجاهات السلوكية لكلتا الشخصيتين، فضلاً عن أن تاريخ الإسكندر الأكبر يكاد يكون معروفاً في شكل كامل اللهم إلا شذرات هنا أو هناك لا تثمن ولا تؤثر في فهم الشخصية بقدر كبير، كما يعالج هذا المحور أيضاً حقيقة علاقة الإسكندر بآمون ونسبه إليه، وأسطورة الميلاد، وكذلك الأسطورة وفكرة الإخاء الإنساني. هذه المحاور الثلاثة تشكل الركائز الأساسية بكل تفصيلاتها وجزئياتها التي تقوم عليها دراسة سيرة الإسكندر الأكبر، والتي من خلالها يمكن فهم حقيقية العلاقة بين شخصيته وشخصية ذي القرنين، في إطار ما هو متاح من ظروف تاريخية. يبقي السؤال الجوهري الذي هو عمق المسألة:» هل الإسكندر الأكبر هو ذو القرنين أم لا»؟ يخلص المؤلف إلى أنه أجريت حول هذه المسألة دراسات عدة بين مؤيد ومعارض وكل من الرأيين (المعارضون والمؤيدون) لا يتعدى وجهة النظر ليس إلا، فليس لدى أي من الفريقين دليل قاطع على صحة رأيه، فأصحاب الرأي «المؤيدون» يدللون على صحة رأيهم بأن الإسكندر الأكبر استطاع غزو معظم أجزاء العالم القديم شرقاً وغرباً، محاولين بذلك إعطاء تفسير لقوله تعالى: «حتى إذا بلغ مغرب الشمس».... وكذلك الآية (حتى إذا بلغ مطلع الشمس...). كما اعتمدوا أيضاً في رأيهم على أخلاقيات الإسكندر الأكبر التي تشبه إلى حد بعيد أخلاقيات ذي القرنين ومنها دفنه لعدوه اللدود (دارا) ملك الفرس، وتشييع جنازته تشييعاً يليق بملك في مكانة (دارا) القائد الكبير. كذلك يعتمدون في رأيهم على ذكر بعض المؤرخين المعاصرين واللاحقين للإسكندر باسم الإسكندر ذي القرنين، وكذلك وجود بعض الرسوم التي وجدت عليها صورة الإسكندر الأكبر ويعلو جبينه تاج على هيئة قرنين، حتى لقد ذكرت كثير من التفاسير القرآنية هذه العلاقة مفسرين الآية الكريمة (ويسألونك عن ذي القرنين...) أي يسألون النبي (صلى الله عليه وسلم) وهم اليهود، عن رجل طواف في الأرض فأخبرهم النبي أنه شاب من الروم وأنه بنى الإسكندرية، وعلا به ملك في السماء وذهب به إلى السد وراء أقوام وجوههم مثل وجوه الكلاب وفيه طول ونكارة ورفعة. أما آراء المعارضين، فوجهة نظرهم أنه رجل وثني، على حين ما جاء عن ذي القرنين في القرآن الكريم ليوضح بما لا يدع مجالاً للشك أن لذي القرنين منزلة عالية عند الله عز وجل، وأنه بلغ «درجة من الإيمان والتقوى جعلته قريباً من الله لدرجة أن يذكره القرآن الكريم، على حين أن قضية بناء السور تصوّر مدى العلم العميق بكيفيات انصهار الحديد وغيره من المواد المستخدمة في بناء السد، كما جاء في النص القرآني ولا يعتقد في رأيهم أن الإسكندر زار آمون وقدم إليه القرابين محاولاً بذلك تأليه نفسه، فتساءلوا كيف يقدم القرابين ويؤله نفسه، وبذلك يكون ذو القرنين القرآني الرجل الصالح العارف بالله كما جاء في القرآن الكريم؟ هل المسألة مقطوعة أو منتهية؟ في واقع الأمر لكل من الفريقين وجهة نظره الخاصة التي يراها هو مقنعة له، ولكن إذا دققنا النظر في هذه الآراء لوجدناها غير دقيقة بالفعل. فكثير من القادة العظام في التاريخ القديم غير الإسكندر استطاعوا غزو العالم شرقاً وغرباً، كما أن أخلاقيات الإسكندر الأكبر الطيبة هي شيء طبيعي لكونه ملكاً ورث الملك عن أبيه ولكونه أيضاً فارساً نبيلاً، وحتى لو لم تكن أخلاقه طيبة، فهناك نبلاء وفرسان كثيرون قدموا لنا أروع أمثلة على الشجاعة والمروءة والأخلاق النبيلة. وحتى التفسيرات القرآنية التي ذكرت الحديث السابق فهي التفسيرات التي تقرر أن الحديث ضعيف السند. كما أن آراء المعارضين لا تقيم دليلاً شافياً على صحة رأيهم، فزيارة الإسكندر لمعبد آمون في سيوة يمكن فهمها سياسياً على أنها محاولة منه للتقرب إلى المصريين باستخدام الدين، كما يمكن تفسير عدم علمه الواسع على أنه ليس هناك ثمة دليل يؤكد ذلك. وعلى أي حال يبقى صعيد السببية من دون تغطية شاملة، فالحقيقة التاريخية بحاجة إلى دليل قاطع، والنص القرآني عميق الفهم، والتأويل الكامل له هو صفة الله وحده صاحب كلامه ومفرداته، وتبقى مسألة إيجاد أرضية مشتركة بين التاريخ والدين في كثير من الأمور مسألة خلافية ومن الإشكاليات الصعبة التي تحتاج إلى موضوعية شديدة، وفكر واع عميق، غير متعصب، وذلك لصعوبة تضاريس هذه القضية، ووعورة السير فيها خشية الانزلاق إلى تفسيرات خاطئة لا تقود بأي حال من الأحوال إلى الحقيقة التي دائماً ما تكون صعبة المنال، ودائماً ما نسعى إليها.