يكثر الكلام في لبنان على «الفتنة» من ناحية، و «الوحدة الوطنية» من ناحية أخرى، وعلى أن السير على درب إحداهما هو قطع للطريق على الأخرى. فقيام الفتنة بالضرورة، يعني ضرب الوحدة الوطنية، وتكريس هذه الأخيرة يعني زوال الفتنة. وفي حقيقة الأمر، أن خطابات «الوحدة الوطنية» ليست ماركة لبنانية وحسب، بل نجد التغني بها سمة أغلب بلدان العرب. وإذ كانت جميعها ذات مضامين واحدة، فإن بعض الاختلاف تمليه خصوصيات كل بلد. فهي إذ تجد لها مكاناً في الرد على «مؤامرات تقسيم السودان»، والحيلولة دون انهيار اليمن، وفي التشديد على التعايش في الكويت، وضرورة بناء العراق الموحد، وتوحيد الصف الفلسطيني، ووأد الفتنة بين المسلمين والأقباط في مصر...؛ فإن دولاً أخرى يظهر أنها تنعم باستقرار اجتماعي و «تعايش» بين مكوناتها، يأتي خطاب الوحدة الوطنية فيها مناسبة للتغني وإشارة للقوة والحكمة و «الوطنية» التي تتمتع بها سلطات هذه الدول، و «الوعي» الذي يميز رعاياها. لم يكن شعارا «الوحدة العربية» و «الوحدة الوطنية» كما عشناهما في دولنا وفي عقائدنا السياسية، الوحدوية منها على وجه الخصوص، إلا عنصرين في خطاب غلبة وإزاحة، وذلك منذ الاستقلال وحتى الآن. فبحسب الشيوعية العربية الأولى والأممية، والثانية التي تقومنت، لا يصح الحديث عن وحدة «الوطن وأبنائه» من دون تكنيس أعدائهما في الداخل، وهؤلاء ليسوا إلا أناساً محليين، ولكنهم يعملون، «موضوعياً» على الأقل، كوكلاء داخليين لأعداء «الوطن»؛ الامبريالية ومن لفّ لفّها. فعلم الوحدة العربية، بحسب الراحل الكبير إلياس مرقص في بداية سبعينات القرن المنصرم، هو علم «الطبقات غير الخائنة»، أي «العمال والفلاحين والمثقفين والجنود والضباط، وستمسك به الطبقة العاملة أكثر فأكثر»! كان هذا قبل أن تغيب الشيوعية عن ساحة الفعل السياسي العربي، وترتضي فلولها الانضواء تحت راية السلطة الحاكمة، منافحة عن تصورات هذه الأخيرة حول الوطن ووحدة أبنائه، بغية مكاسب أقل ما يقال عنها إنها رخيصة. لن يبتعد التيار العروبي عن هذه النغمة كثيراً، فالوحدة «الوطنية والقومية» لا يمكن أن تنال فرصة التحقق من دون القضاء على «عملاء الإمبريالية والرجعيين». ولن توفر العروبة العقائدية حتى شركاءها في التقدمية ومعاداة الامبريالية والاستعمار، كالشيوعية التي وصف ميشيل عفلق أتباعها بأنهم «جواسيس وخونة»؛ فهؤلاء يخونون التاريخ وحقيقته السائرة نحو تحقق وحدة العرب، ويعوقون تقدمه. ولا تبتعد الحزبية الإسلامية التي التزمت في معارضتها حدود بلدانها عن هذا الجو أيضاً، فوحدة الوطن وأبنائه لا تكون إلا بإعادة الحق عبر إقامة «النصاب الديموقراطي» الذي لا يعني إلا إزاحة العوائق أمام تسلم «الأكثرية» السلطة. ومن هذه العوائق الأقليات الأيديولوجية (من أحزاب علمانية) ودينية، خصوصاً أن التاريخ «يشهد» لهذه الأخيرة تذبذبها في الانتماء إلى محيطها الذي يصل في أحايين كثيرة إلى التعامل مع أعداء هذا المحيط من الفرنجة والمغول والاستعمار الحديث، ضد أبناء هذا المحيط! وما كان على صعيد النظرية في هذه الأيديولوجيات، سيغدو واقعاً محققاً على يد الأنظمة التي كانت هذه الأيديولوجيات خلفيتها العقائدية. فهذه الأنظمة ستسير قدماً في «توحيدها الوطني» ولكن عبر عمليات حذف وإلغاء وتهميش عالٍ لمجتمعاتها عموماً، ولفئات منها على وجه الخصوص، حيث لم توفر حتى حلفاء ورفاق الأمس القريب، كما حصل في العراق والجزائر وغيرهما؛ وذلك عبر الاستعانة بما وفرته عقائدها من آليات «شرعية» كالتأميم مثلاً، أو بما تتيحه الدولة من وسائل ضبط وعنف. وقد استطاعت تلك الأيديولوجيات، والأنظمة السياسية المتعددة الأشكال في بلاد العرب، تجريم السياسة حين تسعى أن تكون حقلاً اجتماعياً يعبر من خلاله الناس إلى مصالحهم ومشاريعهم وتخطيط حياتهم؛ واعتبارها مجالاً لا وجود له إلا بالوكالة (الحزب عن الجماهير، والقائد عن الأمة والشعب)، وقدمت نفسها صمام أمان الوحدة الوطنية، التي لن تقوم لها قائمة إن زالت هذه الأنظمة. ليس كمثلنا من تغنى بالوحدة، ولا يزال، وبذل لأجلها الغالي والرخيص. ومع ذلك ليس كمثلنا أيضاً من يعيش حالة من التفكك والانقسام، والتي لا تزال تسير قدماً. وهذه الوحدات «الوطنية» القائمة، والتي رفضها الأجداد بغية تجاوزها إلى ما هو أكبر، ونافح الآباء للحفاظ عليها؛ أخذت شيئاً فشيئاً تتراجع لمصلحة خرائط جديدة نفسية وأيديولوجية (تحددها حدود المعتقد الديني أو الطائفي أو العرقي) أخذت تسكن في رؤوس الأبناء، ولا تعترف بكل ما سبق. وعوداً على لبنان الذي بدأنا منه، يبدو أن خطاب «الوحدة الوطنية» فيه ليس إلا خطاباً في «الواحدية الوطنية». فلبنان، كما يبدو في سلوك أطرافه المتنازعة (ومن ورائهم الدول المعنية بلبنان)، لا يحتمل إلا شكلاً واحداً وفريقاً واحداً. فإذا كان هذا، كما يعلمنا تاريخ لبنان وحاضره، ضرباً من المستحيل، فإلى أين يذهب الجميع؟ * كاتب سوري