في الوقت الذي أرسلت فيه أبها نداءً من تحت الماء بعد موجة المطر التي جعلت أحياءها وشوارعها بالكاد تتنفس تحت زخاتها، صرخت المنطقة الشرقية بمختلف مدنها: إنني أغرق، وكررتها ثلاثاً قبل أن تجيبها الدلم الواقعة جنوبالرياض مستنفرة الأجهزة الأمنية: «أخرجني من هذا اليم... فأنا لا أعرف فن العوم». هكذا بدت صور الواقع الأليم بين اتهامات بالفساد، وأخرى أقل وطأة ب«سوء الإدارة» وضعف الرقابة، وثالثة تطالب بالتعامل مع الموقف بشكل عاجل، فيما لاتزال ذكرى «كارثة جدة» تلوح في الذاكرة السعودية، التي بالكاد بدأت تختفي لولا أن محاكمة المتسببين فيها تعيدها بين الفينة والأخرى، ما يفتح الأبواب على مصراعيها للمطالبة بمحاسبة المتسببين. دارت في خلد سكان المدن المتضررة عشرات الأسئلة، كان أبرزها: لماذا لا يحدث ذلك في دول أخرى تشهد موجات مطر أكثر غزارة؟ ولماذا يحدث ذلك في السعودية فقط؟ فيما تداول كثيرون صورة لمدينة الجبيل الصناعية التي لا يفصلها عن الدمام أكثر من 100 كيلومتر فقط، وكان الفارق شاسعاً بينهما، فالدمام وضواحيها تديرها أجهزة حكومية عدة تحت مظلة الأمانة، فيما الأولى تدار بأجندة «الشركات» الإدارية التي تخضع ل«الموازنة» والحوكمة والرقابة والمتابعة. ولم يتوقع أحد حجم أضرار المنخفض الجوي الذي تشهده المملكة حالياً، بعدما تسبب في حوادث وفاة وفقدان أشخاص، إضافة إلى احتجاز عشرات الأشخاص ومئات المركبات، غالبيتها في مدينة أبها التي غرقت على رغم ارتفاعها عن سطح البحر بأكثر من 2000 متر. وشيعت أبها الأربعاء الماضي جنازة الطفل نواف الأحمري (14 عاماً)، الذي توفي بعدما جرفته السيول في حي المنسك برفقة سائقه الخاص، وعثر على جثة نواف في عبارة مياه، فيما مايزال البحث جارياً عن السائق المفقود منذ ذلك الحين، وفي مدينة المجمعة شمال منطقة الرياض، غرق طفل (13 عاماً)، إثر سقوطه في سد المجمعة، وانتشلت فرق الدفاع المدني جثته. «الدفاع المدني» من جانبها كشفت أنها باشرت نحو 4700 بلاغاً جراء الأمطار والسيول على كل مناطق المملكة، وأنها أنقدت 950 شخصاً وأخرجت 650 مركبة، فضلاً عن قيامها بإخلاء وإيواء 119 أسرة خلال ستة أيام، كاشفة أن الجزء الأكبر من البلاغات تلقاها مركز التحكم والتوجيه بمنطقة الرياض. وأشارت إلى أن العاصمة وعسير شهدتا حالة وفاة في كل منهما، فيما مايزال البحث جارياً عن مفقودين في المنطقتين، وأسهمت فرق تطوعية في البحث عن المفقود في منطقة عسير، وهو مقيم من جنسية عربية جرفته مياه السيول الثلثاء الماضي، بحي المنسك في أبها، إذ قامت الفرق الميدانية بتمشيط الأودية والممرات المحاذية للحي من بداية نقطة انجرافه وعلى امتداد الممرات المائية بموقع الحادثة، بمشاركة فريقين تطوعيين، هما فريق غوث التطوعي، وفريق ساند التطوعي. وثمن مدير الدفاع المدني بمنطقة عسير اللواء صالح الحارثي، هذه المشاركة التطوعية، بينما واصل المركز الإعلامي للدفاع المدني نصائحه عبر حساباته المختلفة في مواقع التواصل الاجتماعي تحذيراته للمقيمين والمواطنين بالابتعاد عن مناطق جريان السيول، وغردت: «عزيزي المواطن والمقيم في حال تعطل سيارتك وخشيت من الاحتجاز وسط السيول اتركها والجأ إلى أقرب مكان آمن». وتداول مغردون على مدار الأيام الماضية، مقاطع فيديو لمركبات تجرفها السيول، بينها مركبة قيل إن معلمات من محافظة رجال ألمع كُن على متنها، ولكن لم يُعرف عدد من كان داخلها، وتظهر سيدة تصارع السيول التي تجرفها بعيداً، إلا أن «تعليم رجال ألمع» نفت رسمياً أن يكون المقطع يخص معلمات. ووثق مواطن آخر جرف السيول مركبة قيل إنها تعود إلى طالب من جامعة الملك خالد غمرتها السيول تماماً، ولم يصب الطالب، وانتقد المواطن عدم تعليق الدراسة بعد هذه الأمطار الغزيرة. ونشر حساب «الدفاع المدني» مقطع فيديو لأحد «المتهورين» يتحدى جريان السيول، ما أدى إلى تعرض مركبته للانقلاب، التي يظهر فيها خمسة أشخاص متعلقين، كاد أحدهم أن يغرق بعدما حاول العبور إلى الشاطئ سباحة. وغردت «الدفاع المدني»: «ثمّة تهور عابر قد يفقدكم أرواحكم». ولأن شر البلية ما يضحك، تداول السعوديون صوراً لحي الفاخرية بالدمام والمياه تغمر شوارعه، مشيرين إلى أن أسعاره ارتفعت بعد أن أصبح على البحر، مطلقين عليه اسم «فينيسيا الشرق». وفي صورة ثانية، ظهرت لوحة إرشادية لهيئة مكافحة الفساد وسط مياه الأمطار كُتب عليها: «الفساد تعطيل للتنمية»، في مفارقة ترسم الابتسامة على شفاه يحتبسها ألم مناظر الشوارع الغارقة، فضلاً عن مقاطع ومناظر أخرى عدة، تم تداولها على نطاق واسع لتكون شاهداً على التاريخ الذي سطره المطر على صفحات الجهات المسؤولة عن إدارة تصريف المياه، والأجهزة الحكومية الإشرافية والرقابية في مختلف مناطق المملكة.